الجمعة , أبريل 19 2024

غزوة أحد | الرحيق المختوم

نتناول أحداث غزوة أحد والأسباب التي دفعت قريش لمواجهة المسلمين، ونستعرض كيف استعد كل من المسلمين والمشركين لهذه المعركة، وكيف انتصر المسلمون في بداية المعركة حتى انقلبت المعركة.

غزوة أحد

استعداد قريش لمعركة ناقمة‏

كانت مكة تحترق غيظاً مما أصابها في بدر وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش نزعات الانتقام، ومنعوا البكاء على قتلاهم، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى‏.‏

وراحت قريش تستعد لحرب شاملة ضد المسلمين، فاشتروا العير التي نجا بها أبو سفيان، وفتحوا باب التطوع من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وحرضوا الشعراء على استثارة القبائل. وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً.

ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين 3000 آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، واستصحبوا معهم النساء وكن 15 امرأة.‏

وكان معهم 3000 بعير، و 200 فرس، و 700 درع، ‏ وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وتحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة.

 

الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو‏

أرسل العباس بن عبد المطلب من مكة رسولاً إلى النبي يبلغه باستعدادات قريش وتحركها، ووصلت الرسالة للنبي وهو في مسجد قباء‏، فعاد مسرعاً إلى المدينة لاستشارة قادة الصحابة.

وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح، ومنهم فرقة لحراسة رسول الله، وفرق أخرى على مداخل المدينة، وحول الطرق لاكتشاف تحركات العدو.

 

الجيش المكي إلى أسوار المدينة‏‏

ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، ونزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له‏:‏ عَينَيْن، فعسكر هناك يوم الجمعة 6 شوال 3 هـ.‏

 

المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع‏

عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف.

ثم عرض رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة، فإن دخل المشركون إلى المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ.

لكن بعض الصحابة أشاروا على النبي بالخروج، وتحمسوا لذلك، حتى قال قائلهم‏:‏ يا رسول الله، كنا نتمني هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم‏.‏

واستقر الرأي على الخروج للميدان السافر خارج المدينة.‏ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس الجمعة، وأمرهم بالتهيؤ، ولما صلى بالناس العصر، دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين ‏[‏أي لبس درعا فوق درع‏]‏ وتقلد السيف، ثم خرج على الناس‏.‏

وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير‏:‏ استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له‏:‏ يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏ ‏.‏

 

كتائب المسلمين:

وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب‏:‏

1‏.‏ كتيبة المهاجرين، وأعطي لواءها مصعب بن عمير.‏

2‏.‏ كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير‏.‏

3‏.‏ كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر‏.‏

وكان الجيش متألفاً من 1000 مقاتل فيهم 100 دارع، ولم يكن فيهم من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة، وآذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال‏.‏

ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة لليهود ترغب المساهمة في القتال، فأبى رسول الله أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك‏.‏

 

استعراض الجيش‏‏

وعندما وصل إلى مقام يقال له‏:‏ ‏[‏الشيخان‏]‏ استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال، لكنه أجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما.

وأجاز النبي رافع بن خديج لأنه كان ماهراً في رماية النبل، فقال سمرة‏:‏ أنا أقوي من رافع، أنا أصرعه، فأمرهما النبي أن يتصارعا أمامه، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً‏.‏ وبات المسلمون في هذا المكان ليلتهم.

 

تمرد عبد الله بن أبي وأصحابه‏

وبعد صلاة الفجر، حيث كان النبي على مقربة من العدو، يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ 300 مقاتل ـ قائلاً‏:‏ ما ندري علام نقتل أنفسنا؟‏ وتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول ترك رأيه وأطاع غيره‏.‏

وكاد هذا التمرد أن يحدث بلبلة في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوهم، فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما بعدما همتا بالانسحاب.

موقع المسلمين وخطة الدفاع‏‏

تحرك النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش 700 مقاتل، وسلك طريقاً حتى نزل الشعب من جبل أحد فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وبهذا صار العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة.

وهناك عبأ جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، واختار 50 من الرماة الماهرين بقيادة عبد الله بن جبير، وأمرهم بالتمركز على جبل جنوب شرق معسكر المسلمين ـ وعرف فيما بعد بجبل الرماة – على بعد حوالى 150 متراً من مقر الجيش الإسلامي‏.‏

وأمر النبى الرماة أن يحموا ظهور المسلمين وألا يتركوا مكانهم سواء انتصرالمسلمين أو انهزموا.

وبهذا الإجراء سد رسول الله الثغرة الوحيدة التي يمكن للمشركين التسلل منها، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، وحمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره بالرماة، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً وألجأ العدو إلى موضع منخفض.

وجعل رسول الله على ميمنة الجيش المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم، وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ‏.‏

 

الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش‏‏

حرض رسول الله أصحابه على القتال، والمصابرة والجلاد، وأخرج سيفاً باتراً ونادي أصحابه‏:‏ ‏‏(‏من يأخذ هذا السيف بحقه‏؟‏‏)‏، فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم على بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال‏:‏ وما حقه يا رسول الله؟‏ قال‏:‏ ‏‏(‏أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه‏.‏

وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت‏.‏ فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن‏)‏‏.‏

 

تعبئـة الجيش المكي‏

أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان ابن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة‏.‏

 

مناورات سياسية من قبل قريش‏

وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين‏، فأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم‏:‏ خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، ولكن محاولته فشلت.

وحاولت قريش مرة أخرى، فأرسلت عميلها أبو عامر الراهب، وسماه النبي الفاسق، إلى الأوس حيث كان في الجاهلية رأساً للأوس، ونادي أبو عامر‏:‏ يا معشر الأوس، أنا أبو عامر‏.‏ فقالوا‏:‏ لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق‏.‏ وفشلت قريش في محاولتها الثانية.

 

جهود نسوة قريش في التحميس‏‏

كانت النساء تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، تتجولن في الصفوف، وتضربن بالدفوف؛ تستنهضن الرجال، وتحرضن على القتال، وتثرن حفائظ الأبطال.

 

أول وقود المعركة‏‏

خرج حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فتقدم إليه الزبير ووثب إليه كالأسد وأنزله أرضا وذبحه.

ورأي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير، وقال في حقه‏:‏ ‏‏(‏إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير‏)‏ ‏.‏

 

ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته‏

ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال في كل نقطة من الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة فقتله حمزة، ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص وقتله، ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، ثم حمله أرطاة بن شُرَحْبِيل فقتل، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتل، ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتل، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتل.‏

فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء‏.‏ فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُؤَاب ـ فحمل اللواء، وقاتل حتى قتل، وسقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً‏.‏

 

القتال في بقية النقاط‏‏

وكان القتال مريراً في سائر نقاط المعركة، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون‏:‏ ‏[‏أمت، أمت‏]‏ كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد‏.‏

أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء، آخذاً بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا‏، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش هند بنت عتبة، وهو لا يدري بها‏، فلما حمل عليها السيف ولولت فعلم أنها امرأة فامتنع أن يضرب امرأة بسيف رسول الله.

وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فبعد مشاركته في إبادة حاملي لواء المشركين، اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، وفعل الأفاعيل بأبطالهم، حتى صرع كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام‏. ‏

 

مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب‏

يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب‏:‏ كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير‏:‏ إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق‏.‏ قال‏:‏ فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء‏.‏ فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني.

قال‏:‏ وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت ‏.‏

 

من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة‏‏

قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر، وعلى، والزبير، ومصعب، وطلحة، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين، وفتَّ في أعضادهم‏.‏

ومن هؤلاء الأبطال المغامرين حنظلة بن أبي عامر، وكان حديث عهد بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقي بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان وكاد يقضي عليه لولا أن رآه شداد بن أوس فضربه ونال حنظلة الشهادة.

 

نصيب فصيلة الرماة في المعركة‏

حاول فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق الهجوم على رماة المسلمين ثلاث مرات؛ حتى يصلوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث‏.‏

 

الهزيمة تنزل بالمشركين‏‏

أخذت صفوف المشركين تتبدد عن اليمين والشمال والأمام والخلف، وأحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها، ولم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط، فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار.

وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح‏:‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن ‏.‏ وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم‏.‏

 

غلطة الرماة الفظيعة‏‏

سجل المسلمون نصراً ساحقاً لم يكن أقل روعة من يوم بدر، حتى وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.

لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ‏؟‏، وذكرهم قائدهم عبد الله بن جبير بتعليمات النبي، لكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وغادر أربعون رجلاً أو أكثر مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم‏.‏

 

خالد بن الوليد يطوق الجيش الإسلامي‏

وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم ـ وهي عمرة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادي بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحي‏.‏

 

موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فرفع صوته ينادي أصحابه‏:‏ ‏‏(‏إلي عباد الله‏)‏، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق‏.‏ وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون‏.‏

 

تبدد المسلمين في الموقف‏‏

أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، حتى وصل بعضهم إلى المدينة، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل‏.‏ ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض‏.‏

وعمت الفوضى صفوف المسلمين، وتاه منها الكثيرون؛ وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‏:‏ إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان‏.‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‏:‏ ما تنتظرون ‏؟‏ فقالوا‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال‏:‏ أين يا أبا عمر ‏؟‏ فقال أنس‏:‏ واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم ‏.‏

ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال‏:‏ يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم‏.‏ فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه ‏.‏

بمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة‏.‏

وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق فى بدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر، وعمر، وعلي وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ ‏.‏

 

احتدام القتال حول رسول الله‏‏

كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن معه إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين‏:‏ ‏‏(‏هلموا إلي، أنا رسول الله‏)‏، سمع صوته المشركون فمالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه المسلمين.

روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال‏:‏ ‏‏(‏من يردهم عنا وله الجنة ‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏‏(‏من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ـ أي القرشيين‏:‏ ‏‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏ ‏.‏

وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ‏.‏

 

أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏

ولم يتبق مع الرسول سوى القرشيين طلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وكانت أحرج ساعة للمسلمين، وفرصة ذهبية للمشركين، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، للقضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال‏:‏ خذها وأنا ابن قمئة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهة‏:‏ ‏‏(‏أقمأك الله‏)‏ ‏.‏

وأظهر طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص بطولات نادرة وبسالة في القتال منعت المشركين من القضاء على النبي، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال‏:‏‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ ‏.‏ وأما طلحة بن عبيد الله فقد روي النسائي عن جابر قال: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال‏:‏ حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏لو قلت‏:‏ بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون‏)‏، وقيل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها ‏.‏

و كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏.‏

 

بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم‏

وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، ثم تجمع المسلمون، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

قال أبو بكر الصديق‏:‏ وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏‏(‏دونكم أخاكم، فقد أوجب‏)‏، قال‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة ‏.‏

وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة ابن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة‏.‏

 

تضاعف ضغط المشركين‏

وتضاعف عدد المشركين واشتدت حملاتهم، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً.

 

البطولات النادرة‏

كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو‏.‏ ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك ‏.‏

وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره‏.‏ والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك‏.‏

وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه‏.‏

وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج‏.‏

وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال‏:‏ ‏‏(‏مُجَّه‏)‏، فقال‏:‏ والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏(‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا‏)‏، فقتل شهيداً‏.‏

وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً‏.‏

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وظن ابن قمئة أنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فصاح في المشركين‏:‏ إن محمداً قد قتل ‏.‏

 

إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة‏

ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي فخارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، وعمتها الفوضي والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين‏.‏

 

الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف‏

ولما قتل مصعب حمل اللواء على بن أبي طالب، وتمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق ويصل إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك فنادي بأعلى صوته‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اصمت إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة‏.‏

وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام ‏.‏

تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامرـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه‏.‏

وأثناء هذا القتال كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، قال أبو طلحة‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ‏.‏

وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

 

الرحيق المختوم

تعليق واحد

  1. اللهم صلِ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *