الخميس , أبريل 25 2024

قصة موسى عليه السلام (ج8) | مختصر ابن كثير

نروي في هذا الجزء قصة المواعدة لميقات حدده الله لموسى عليه السلام وأن يصحب معه بني إسرائيل عند جبل الطور في الصحراء، وفيها نروي ما حل على بني إسرائيل من جهل وضلال واتخاذهم عجلاً ليعبدوه.

المواعدة ولقاء الله في جبل الطور

واعد الله بني إسرائيل أن ينزلوا بصحبة نبيهم موسى عليه السلام إلى جانب جبل الطور الأيمن، حيث يتكلم الله مع موسى وينزل عليه أحكاماً للمؤمنين ليتبعوها وتكون فيها مصلحة دنياهم وأخراهم، وواعد الله موسى أن يلتقي به بعد 30 يوماً يصومها موسى قبل لقاء الله هي شهر ذو القعدة ثم أتممها الله بعشر ذي الحجة.

كانت هذه المنطقة صحراوية ليس فيها زرع ولا ضرع، فأنزل الله عليهم كل صباح مناً من السماء، واشترط الله عليهم ألا يأخذوا منه إلا على قدر حاجتهم، ومن ادخر أكثر من حاجته فسد، وهذا المن يصنعون منه مثل الخبز، وهو في غاية البياض والحلاوة، وعند المساء يغشاهم طير السلوى، فيقتنصون منها بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم، وظلل الله عليهم غمام السحاب لوقايتهم من حر الشمس، وأنبع الله لهم ينابيع الماء، يضرب موسى حجراً بالعصا، فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط عينٌ منه تنبجس، ثم تتفجر ماء زلالاً فيستقون فيشربون ويسقون دوابهم، ويدخرون كفايتهم.

رغم هذه النعم العظيمة إلا أن بني إسرائيل لم يرعوها حق رعايتها، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها، فقد اضجر الكثير منهم وتبرموا بها، وسألوا موسى أن يستبدل لهم هذا الطعام بطعام آخر مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، فقرعهم موسى ووبخهم وقال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ إذن اهبطوا من هذه المرتبة التي رفعكم الله إياها وانزلوا أى مصر تجدون ما تشتهون وما تذكرون من المآكل الدنية والأغذية الردية، لكني لن أجيبكم لطلبكم في هذه الأرض، فمن يطغ يحلل عليه غضب الله ويهوى، أما من تاب وآمن وعمل صالحاً واهتدى فالله غفور رحيم.

لما استكمل موسى ميقات ربه 30 يوماً حيث كان صائماً ولم يستطعم الطعام، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه، فأمره الله أن يمسك عشراً أخرى، فصارت أربعين ليلة، فلما عزم على الذهاب للقاء الله استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون، وقال له: يا هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين.

ولما ذهب موسى لميقات ربه، دب الانحراف في بني إسرائيل وتولى كبر هذا الضلال رجل يدعى هارون السامري، حيث جمع حلي بني إسرائيل الذي غنموه من آل فرعون وصاغ منها عجلاً، ثم أخذ قبضة من تراب زعم أنها كانت من أثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي، حيث كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كمن تخور البقرة، فلما شاهد بنو إسرائيل ذلك فرحوا ورقصوا وبلغ ضلالهم وسوء أدبهم أن قالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وقد ذهب ونسى أن الإله هنا. وقد ظلم بنو إسرائيل أنفسهم حين اتخذوا العجل وهو لا يملك لهم قولاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً. ولما رأى نبى الله هارون شقيق موسى عليهما السلام ما صنع القوم نهاهم أشد النهي وزجرهم على سوء صنيعهم، وقال: يا قوم إنما فتنتم بهذا العجل، وما هو بإله، إنما ربكم الرحمن، فاتبعوني وأطيعوا أمري. لكنهم استضعفوا هارون وعصوه ولم يتبعوا أمره بل ساءوا الأدب معه وكادوا أن يقتلوه، وقالوا: سنظل عاكفين على هذا العجل حتى يرجع إلينا موسى.

ولما جاء موسى لميقات الله، كلمه الله من وراء حجاب، إلا أنه أسمعه الخطاب، فناداه وناجاه، وقربه وأدناه، وهذا مقام رفيع ومعقل منيع، فلما أعطى هذه المنزلة العلية وسمع الخطاب، سأل رفع الحجاب، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار: رب أرني أنظر إليك. فقال تعالى: لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى الله للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً مغشياً عليه، فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين. قال الله تعالى: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما أتيتك بقوة وكن من الشاكرين.

وكتب الله لموسى التوراة في الألواح وفيها مواعظ عن الآثام وتفاصيل لكل شيء، وقال: يا موسى خذها بعزم وقوة ونية خالصة، وأمر قومك يأخذونها بأحسن وجه وأجمل محمل، ويذكروا نعمتي التي أنعمت عليهم ويوفوا بعهدي، وإياي فليرهبون، وحذرهم أن يكفروا بآياتي أو أن يشتروا بها ثمناً قليلاً، وسأريكم عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.

نظر موسى في الألواح وقال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رب اجعلهم أمتي، قال الله: تلك أمة أحمد.

وسأل موسى ربه: يا رب أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى. قال: فأي عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبع الهدى. قال: فأي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه. قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: عالم لا يشبع من العلم. يجمع علم الناس إلى علمه. قال: فأي عبادك أعزّ؟ قال: الذي إذا قدر غفر. قال: فأي عبادك أغنى؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى. قال: فأي عبادك أفقر؟ قال: صاحب منقوص”.

قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به. قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقول هذا، قال: قل لا إله إلا الله، قال: إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو أن أهل السماوات السبع والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله”.

ثم قال تعالى: وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، واتخذ لهم عجلاً يعبدوه. فغضب موسى غضباً شديداً من سوء صنيع نبي إسرائيل من بعده.

كان بنو إسرائيل قد أدركوا سوء صنيعهم إذ وجدوا أن العجل لا ينفع ولا يضر، وعلموا أنهم قد ضلوا وأخطأوا فندموا على ما فعلوا وقالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين.

ولما رجع موسى إليهم، كان غضبان أسفاً، فلما دخل عليهم ألقى الألواح من شدة غضبه، وعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح وقال: بئس ما خلفتموني من بعدي، ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً؟ أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي؟. فاعتذروا إليه، وقالوا: ما أخلفنا موعدك، ولكنا قد حمل علينا أوزاراً من زينة وحلى آل فرعون فرميناها للسامري ثم فعل بها ما فعل.

ثم أقبل موسى على أخيه هارون وأخذ برأسه يجره إليه قائلاً: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن تمنعهم وتلحق بي لتخبرني؟ قال هارون: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، وإني خشيت أن تقول لي لم تركتهم وحدهم بعدما استخلفتك عليهم، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين. فقال موسى: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.

ثم أقبل موسى على السامري قائلاً: ما خطبك يا سامري؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: إني رأيت ما لم يروه، حيث بصرت جبرائيل وهو راكب فرساً، فأخذت قبضة من التراب الذي عليه أثر فرس جبرائيل فرميتها وكذلك سولت لي نفسي. فقال موسى: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، وإن لك موعداً يوم القيامة لن تخلفه، وانظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفاً، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا.

فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل، فحرقه بالنار، ونسفه نسفاً ثم رماه في البحر، وقال: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً، إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وهو جزاء المفترين على الله الكذب، لكن الذين تابوا بعدها وآمنوا فإن الله غفور رحيم.

ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها التوراة هدىً ورحمة للذين يخافون الله، فأمر بني إسرائيل أن يأخذوها بقوة وعزم، فقالوا: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال: إن أمر الله يقبل كله بكل ما جاء فيه. فراجعوه مراراً، فأمر الله الملائكة فرفعت الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظله، أي غمامة، على رؤوسهم. وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها سيسقط هذا الجبل عليكم. فخافوا وقبلوا ذلك وأعطوا مواثيقهم وأمروا بالسجود فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، لكنهم تولوا بعد ذلك فكانوا من الخاسرين.

ونزل العقاب على الذين عبدوا العجل بأن أمرهم الله بالتوبة وقتل أنفسهم، واختار موسى سبعين من علماء بني إسرائيل ليذهبوا معه للقاء الله في ميقات حدده الله تعالى، ليعتذروا عن بني إسرائيل وما ارتكبوه من عبادة العجل.

قصص الأنبياء

تابع أيضاً:

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *