الخميس , مارس 28 2024

إسماعيل ياسين … من الصعود إلى الهبوط

تقول الأسطورة الإغريقية القديمة إن كبير الآلهة زيوس قد عاقب البشريّ “سيزيف” جراء تصور الأخير أنه يستطيع بذكائه منافسة الآلهة، بأن جعله يحمل صخرة على تلّ منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التلّ تفلت الصخرة منه دائما، ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى.

أما “إسماعيل ياسين علي نخلة” المعروف باسم “إسماعيل ياسين” فقد مسّته لعنة سيزيف، لكن ليس بسبب تحدّيه للآلهة، لكن لأنه لم يُدر موهبته الضخمة بشكل صحيح حين كان لزاما عليه أن يفعل.
طالت شهرته حدّ السحاب حتى أصبح النجم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي أنتجت الأفلام باسمه في سلسلة عُرفت باسم “إسماعيل ياسين في .. “، هو من مواليد السويس في 15 سبتمبر عام 1912 لأب ميسور الحال يعمل في المدينة الممتلئة بجنود الاحتلال البريطاني كصاحب محل لبيع المشغولات الذهبية، جذب ثراؤه العاملين في مجالس المخدرات والنساء فأصرّوا أن يصبح واحدا منهم.
الأمر الذي جعل حياة الصغير تنهار بعد وفاة والدته كمدا واضطراره للعيش مع جدّته القاسية، لكن الغناء ملاذ، والمطرب الصاعد محمد عبد الوهاب مثلا أعلى، والقاهرة حلما يقترب وقد حمل إليها شغفه بالفن وستة جنيهات سرقها من الجدة العجوز.

لكن من قال إن القاهرة التي تعج بأمثاله من الباحثين عن فرصة للغناء على مسارحها ستفتح له بابًا! فلم يجد أمامه سوى أبواب مساجدها بها ينام ويحتمي وله فيها مآرب آخرى، لكنها سرعان ما تضيق به كما ضاقت به المسارح والملاهي الليلية، ولا يعطف عليه سوى إمام مسجد يعطيه 35 قرشا يضيع منها 32.5 ثمنا لتذكرة عودة للسويس.

لكن القاهرة ليست دائما بذات القسوة، ففي عودته الثانية لها بعد أن تحوّل والده من صاحب محل إلى عامل بعد أن استنزفه إدمان الكوكايين ومسّه عطف على موهبة ابنه الوحيد، في عودته ثانية تهبه بعض الرضا فتتيح له أن يغني بعض المونولوجات في أكبر فرقها وقتها على مسرح كازينو بديعة المُطلّ على النيل، بعد أن أدرك أنه لا سبيل له في أن يصبح كمحمد عبد الوهاب، وإن ظلّ حلم الغناء في خلفية أفكاره دائما.  وبقى حلم أن يصبح مطربا يتحين الفرصة دوما للظهور كما في أدائه أغنية “في يوم من الأيام” أمام عبد الحليم حافظ ذاته في فيلم “إسماعيل ياسين بوليس حربي”.

ومن مسرح كازينو بديعة يلتقطه فؤاد الجزايرلي ليقدم دورا صغيرا في فيلم “خَلف الحبايب” عام 1939، ثم في عام 1941 يشارك في فيلم “مصنع الزوجات” مع نيازي مصطفى، لكن بدايته الحقيقية مع فيلم “علي بابا والأربعين حرامي” في العام التالي مباشرة مع علي الكسّار والمخرج توجو مزراحي، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 1950.

في الفترة بين عام 1950 وعام 1953 سيقدم إسماعيل ياسين العديد من الأفلام مشاركا بالدور الثاني كصديق البطل وداعمه، أو كبطل منفرد لكنها لم تحقق النجاح المرجو، وإن أبانت بوضوح أن ثمة نجما سينمائيا على وشك الظهور.
في عام 1954 سيصبح إسماعيل ياسين على موعد مع النجاح المدوّي، فيقدم وحده 19 فيلما في هذا العام أو ما يعادل ثُلث الإنتاج السينمائي المصري وقتها، كما أنه في هذا العام سيقدم لأول مرة فيلما يحمل اسمه، هو “مغامرات إسماعيل ياسين” من إخراج يوسف معلوف، ثم “عفريتة إسماعيل ياسين” من إخراج حسن الصيفي، والأهم أنه في هذا العام قدم الفيلم التقدمي “الآنسة حنفي” عن فكرة للصحفي جليل البنداري، وفيه ناقش أفكارا تتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، وحق المرأة في التعليم، وحقها في اختيار شريك حياتها، في إطار شديد السخرية من المجتمع الذكوري وسلطته الأبوية التي حكمت مصر طويلا.

في عام 1954 أيضا سيقرر إنشاء فرقة مسرحية تحمل اسمه،  وفي 11 نوفمبر ستقدم الفرقة أول عروضها باسم “حبيبتي كوكو” وستظل تعمل حتى تقدم 51 مسرحية كلها من تأليف أبو السعود الإبياري حتى عام 1966 عندما يضطر إسماعيل ياسين إلى غلق المسرح وحلّ الفرقة.
وفي العام التالي مباشرة ستستخدم حركة الجيش الوليدة – التي لم تكن سميت ثورة بعد – اسمه وحب الجماهير له في تقديم أفلام تساعد على تقريب الحياة العسكرية الجافة لذهن المدنيين، فيقدم فيلم “إسماعيل ياسين في الجيش”، كبداية لتقديم أفلام عن أسلحة الجيش المختلفة (الأسطول، الطيران، البوليس الحربي، البوليس، البوليس السري .. ). وفي معظم تلك الأعمال يقدّمه المؤلفون مع آخر كمعادل مصري للثنائي الشهير لوريل وهاردي أحيانا مع حسن فايق أو عبد الفتاح القصري وأحيانا مع رياض القصبجي (الشاويش عطيّة).
وساعد على نجاحه في تلك الفترة اعتماده على تيمات متشابهة مضمونة النجاح، وإحاطته دوما بالعديد من الممثلين صغيري الأدوار كبيري الموهبة، إلى جانب تقديمه شخصيات شعبية بسيطة من المهمشِّين قريبة من رجل الشارع المصري العادي.

كما لم تقتصر أدواره على الكوميديا فحسب، بل امتدّت إلى التراجيديا بأفلام مثل “إنسان غلبان”، و”إسماعيل ياسين في حديقة الحيوان” والتي لم تنجح جماهيريا للأسف، لكنها أكدّت على موهبته وقدرته على القيام بكل الأدوار، حتى قال هو نفسه في حوار له مع عائشة صالح في مجلة الكواكب (أنا لم أنجح في الدراما، جربت مافلحتش، في إسماعيل ياسين في حديقة الحيوان للأسف لم يقتنع بي الجمهور، في المشاهد المؤثرة “شفاتيري” كانت تموت من الضحك، فالشكل مهم وله تأثير كبير، ثم إن الناس تعودوا أن يروني أضحكهم).

لكنه كأي سيزيف ما أن يبلغ القمة حتى تبدأ صخرته في الانحدار، ففي عام 1960 يبدأ خطه البياني في الهبوط فيقدم ستة أفلام فقط، وفي عام 1963 لم يعرض له سوى فيلم واحد هو “المجانين في نعيم”، وفي عام 1964 لم يقدم أية أفلام، وفي عام 1965 يقدم فيلما واحدا من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما (القطاع العام).
فما الذي حدث وأدّى لانهيار حياة هذا الفنان غير محدود الموهبة! ما الخطيئة التي ارتكبها وجعل صخرته تنهار بعد أن وصل بها قمة التل!

الإجابة هي ارتكابه الخطيئة التي يقع فيها كل الموهوبين عندما لا ينتبهون لإدارة موهبتهم الضخمة، فقد اعتمد إسماعيل ياسين على مخرجين ومؤلفين لم يكونوا بحجم موهبته، واكتفوا بحبسه في نفس الشخصية التي طالما أثبتت نجاحها، وتعاونه مع صديق عمره “أبو السعود الإبياري” في 63 فيلما ساهمت في صبّه في قالب حافظ من جاءوا بعده عليه، إلى جانب عدم إدراكه أن موهبته وحدها لا تكفي، فلم يسندها سوى بثقافته المحدودة التي لم تُمكنّه أبدا من الخروج من دائرة كوميديا الفارْس المأخوذة من المسرح الفرنسي وأعمال كازينو بديعة، وبالطبع ارتكابه أكبر خطيئة يقع فيها موهوب وهي عدم استجابته للتغيير وعدم إدراكه لشكل المجتمع المصري في الستينيات والتغيير الذي يمرّ به وواجب الفن في أن يسايره.

بالإضافة إلى اهتمامه بفرقته المسرحية على حساب عمله في السينما .. لكن حتى هذه الفرقة سرعان ما تنهار وتحلّ بها الهزائم وتلاحقها الخسائر والضرائب وينفضّ عنها المشاهدون.
ففي عام 1961 لم يقدم إسماعيل ياسين سوى مسرحيتين فقط، تزامنا مع بداية البث التليفزيوني ببرامجه وأفلامه وتوفيره متعة منزلية للمشاهدين تغنيهم عن الذهاب للمسرح، لكن الكارثة الأكبر التي أصابت الفرق الخاصة عامة وفرقة إسماعيل ياسين تحديدا كانت في إنشاء التليفزيون لفرقه المسرحية المختلفة من أجل مدّ التليفزيون بالعروض لتغذية ساعات الإرسال الطويلة، ومنح الفرصة لشباب المسرحيين، والتي صاحب إنشاءها دعاية ضخمة، وظهور جيل جديد من الكُتّاب بأفكار طازجة، فضلا عن رخص ثمن تذاكر الدخول مقارنة بالفرق الخاصة.

لكن الأهم من كل ذلك أن الفرق الخاصة كفرقة إسماعيل ياسين، أو فرقة الريحاني لم تستطع أن تساير الفكر الثقافي والاجتماعي الجديد، إلى جانب إصرار فرقة إسماعيل ياسين على أن تقصر عملها على مؤلف واحد هو أبو السعود الإبياري والمتوقف عند مرحلة فرقة بديعة مصابني في الأربعينيات، واعتماده الأساسي في كتابته على التمصير.

فتكون النتيجة المتوقعة بالطبع هي انهيار كل شيء وحلّ الفرقة، وتدعوه دولة الكويت لتقديم مونولوجاته في أواخر مايو 1967، لكن كأن سوء الحظ أصبح رفيق دربه، فتحلّ الهزيمة بوطنه كما حلت به سابقا، فيضطر للسفر إلى لبنان وهناك يقدم بعض الأعمال التي لا تليق بمكانته بأفلام مثل: الرغبة والضياع، وكرم الهوى، وعصابة النساء، وغيرها من الأعمال البيروتية الرخيصة.

وفي 13 سبتمبر عام 1970 يعود إسماعيل ياسين لإلقاء مونولوجاته بعد توقُّف دام 15 عاما في ملهى رمسيس، كما وقف أمام جمهور صالة بديعة في الأربعينيات يغني “عيني علينا يا أهل الفن”، وفي 4 مايو 1972 تصعد روحه إلى ربها شاكية ما لاقاه في كهولته، بعد أن أسقط عن كتفه الصخرة للمرة الأخيرة.

مجلة الجزيرة الوثائقية – فاطمة نبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *