هذه المادة عن فضل بر الوالدين للدكتور محمد راتب النابلسي، وهى مادة مختصرة بتصرف من نص خطبة جمعة منشوره عبر موقعه الرسمي.
ذات صلة:
- بر الوالدين في الإسلام | تعريف و فضل وحقوق
- قصة أويس القرني | العالم الزاهد البار بأمه
- أناشيد وأغاني في عيد الأم | مكتوبة ومسموعة
تكليف بر الوالدين
شاع بين المسلمين عُقوق الوالدين ، وعُقوق الوالدين من أكبر الكبائر.
ليس في الدِّين أمْرٌ للآباء بِرِعاية الأبناء، لأنّ هذا مركّبٌ في طبْعهم ، وفي أصل تَكوينهم.
ولكنّ برّ الأبناء للآباء تكليفٌ، ومعنى أنَّه تكليف أنَّهُ ذو كُلْفةً يقتضي كلفةً وإرادةً ، يقتضي بذْلاً ، يقتضي عطاءً.
أن تفْعَلَ شيئًا وفْق طبْعِكَ شيء ، وأن تفْعَلَ شيئًا بِخِلاف طبْعِكَ شيءٌ آخر ، إنَّك لن ترقى إلا إذا فعلْتَ شيئًا بِخلاف طبْعِك.
قال تعالى : “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى” سورة النازعات : 40
بر الوالدين و من أعظم أعمال الإسلام
الإنسان يُثابُ على أعماله التي تُخالفُ طبْعهُ أكثر ممَّا يُثاب على أعماله التي توافق طبْعَهُ ،
لذلك برّ الوالدين يُثابُ صاحبُه عليه في الدنيا توفيقًا ونجاحًا ، وفي الآخرة سعادةً وخلودًا ،
إنّ هذا التكليف – ِبِرّ والِدَيك – من الأهَمِيَّة بحيث قرَنَهُ الله عز وجل بِعِبادَتِهِ ،
والاقْتِران عن طريق العَطْف يُفيدُ التوافُقَ والمشاكلة ، والمشابهة والاشْتِراك ، قال تعالى :
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ [ سورة الإسراء : 23]
وقرن شكره بشكر الوالدين، قال تعالى : ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [ سورة لقمان : 14]
وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال :
((أحب الأعمال إلى الله سبحانه الصلاة على وقتها ، ثم بر الوالدين ، ثم الجهاد في سبيل الله )) [البخاري عن عبد الله]
فَبِرُّ الوالدين من خِلال هذا الحديث هو أعظمُ الأعمال في الإسلام
بعد الصلاة التي هي عِماد الدِّين ، وعِصام اليقين ، وسيّدةُ القربات ، وغرّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى ربّ الأرض والسموات .
بر الوالدين عند الكبر
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [ سورة الإسراء : 23]
أرأيْتُم كلمة عندَكَ؟ ، أي هم عندك ، بعدَ أن كنْتَ أنت عندهم.
الطّفل إذا كان صغيرًا ، الطّفل الصغير الضعيف هو عند والدَيْه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وتربِيَةً ،
وحين تقدَّمَتْ السِنّ بالأب ، فأصبحَ الأب عند ابنه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وترْبِيَةً ،
ربّما لا يجد الإنسان مشقَّةً في برّ والدِه الشابّ ،
ولكنّ الأب إذا تقدَّمَت به السنّ أصْبحَتْ حاجاتهُ كثيرة ،
وقد يُصبحُ كلامه كثيرًا ، وقد يصبحُ تدخُّلُه كثيرًا ،
فإذا بلغَ من الكِبَر وهو عندك هو في أمسّ الحاجة إليك ، إلى عطْفكَ ، وإلى حِلْمِكَ ، وإلى رحمتك ، وإلى رعايتك ، وإلى ترْبيَتِكَ ،
قال تعالى : ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾
برُّ الوالدين تكليف ، ربّما شعرَ الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنّ أباهُ عبءٌ عليه ،
ربّما شعر الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنَّ أُمّه عبءٌ عليه ، ومصْلحتُهُ مع زوْجتهِ ، مصْلحتُه مع رفاقه ومع أصدقائه ،
فهذا الأب الذي تقدَّمَتْ به السنّ ، وهو في أمسّ الحاجة إليك ربّما أصبحَ عبئًا عليك ، لذلك جاء الأمر الإلهي.
كلمة أف ليسَتْ كلمة ، إنَّها نَفَسٌ مَسْموع ، زفيرٌ مَسْموع ، زفيرٌ بِصَوْتٍ عالٍ .
أُفّ اسم فعل مضارع ، بِمَعنى أتضجَّر ،
والإنسان إذا تضجَّر قال : أفّ ، أو تنفَّسَ بِصَوٍت مَسْموع ، أو أرْجَعَ الهواء من رئتَيْهِ بِصَوتٍ مَسْموع أيْ كان زفيرهُ مَسْموعًا .
العلماء حملوا على هذه كلَّ فِعْلٍ كإغلاقٍ باب ،
وكلّ كلمةٍ ، أو كلَّ نظرةٍ تُساويها في الإساءة إلى الأم والأب ، في القرآن منْطوق ، وفي القرآن مفهوم ،
فكَلِمَة ولا تقل لهما أُفٍّ يُساويها أنْ تشُدّ نظرك إلى أبيك ،
يُساويها أن تغلق الباب بِعُنْف ،
يُساويها أن تحرِّك يدَيْك تضجُّرًا ،
أيّ فِعْلٍ ، أو أيَّةُ كلمة ، أو أيَّةُ إشارة، أو أيّة عبارة ، أو أيّة حركة ، أو أيُّ تصرُّفٍ يُساوي كلمة أفّ فهي تأخذ حكمها ،
لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
” رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه – أيْ خابَ وخسر – من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثمّ لمْ يدخُل الجنّة ”
عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر
أكَّدَ العلماء أنّ من العقوق أن يشْتم الرجل والدَيْه ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر . .
(( من الكبائر شتْم الرجل والديه)) [مسلم عن عبد الله بن عمر ]
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
((من أحْزَنَ والِدَيْه فقد عقَّهما )) [ كنز العمال عن علي]
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال :
((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ،
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور.))
[متفق عليه عن أبي بكرة ]
بر الوالدين المسلمين وغير المسلمين
قد يقول قائلٌ : والديّ ليس على الحق ، ليس مستقيماً ، لا يصلّي ويفعل المنكرات ،
يقول العلماء : لا يختصّ بِرُّ الوالدين بأنْ يكونا مسلمين ، ففي صحيح البخاري عن أسماء قالت :
(( قدمت عليّ أمي وهي مشركة ، في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فاستفتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت وهي راغبة : أفأصل أمي ؟
قال : نعم صلي أمك? )) [البخاري عن أسماء]
وقد قال بعض المفسّرين : إنّ الله سبحانه وتعالى أنْزل عقب هذه الحادثة قوله تعالى :
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
[ سورة الممتحنة : 8]
أعظم الناس حقاً على المرأة والرجل
وفي الصحيح عن أبي هريرة . . .
” من أحقّ الناس بحُسن صحابتي ؟ قال : أمّك ثلاث مرات . . .”
فحقُّ الأمّ ثلاثة أمثال حقّ الأب ،
وسئل صلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس حقًّا على الرجل ؟
فقال : أمّهُ ،
فلما سئل : من أعظم الناس حقّا على المرأة ؟ قال : زوجها .
وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنهُ في الجهاد
فقال : أحَيٌّ والدك؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهِد.
فَبِرُّ الوالدين يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله.
وقد روَتْ الكُتب أنّ رجلاً خاصمّ امرأتهُ على ولدٍ لهما ، أيّهما أحقّ بِحَضانته ،
فقالتْ المرأة للقاضي : أنا أحقّ به لأنّني حملْتهُ تسْعة أشهرٍ ثمّ وضَعْتهُ ، ثمّ رضّعته إلى أن ترعْرع بين أحضاني ،
فقال الرجل : أيها القاضي أنا حملْتُ قبل أن تحملهُ ، ووضعْتُهُ قبل أن تضعهُ ، فإن كان لها بعض الحقّ فيه ، فَلِيَ الحقّ كلّه أو جلّه ،
فقال القاضي : أجيبي أيّتها المرأة
قالت : لئِنْ حَمَلَهُ خِفًّا ، فقد حمَلْتُهُ ثقلاً ، ولئِنْ وضَعَهُ شهوةً فقد وضَعْتهُ كُرْهًا ،
فقال القاضي : اِدْفَع إلى المرأة غلامها ودَعْني من سَجْعك .
بر الوالدين المتوفيين
جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
يا رسول الله هل بقي عليّ من بِرِّ والديّ مِن بعد موتهما شيءٌ ؟
فقال :
نعم ؛ الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهْدِهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرّحِمَ التي لا رَحِم لك إلا من قبلهما.
أما الصلاة عليهما ففي بعض الآراء هي صلاة الجنازة ،
لكنّ بعض العلماء وسَّعَ هذا المفهوم وقال : الصلاة عليهما هي الدعاء لهما بالرحمة ، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال :
﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾[ سورة الإسراء : 24]
ففي صحيح مسلم والبخاري:
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ….ولد صالح يدعو له )) [ متفق عليه عن أبي هريرة ]
وقد قال بعض التابعين :
من دعا لِوَالِدَيه في اليوم خمْس مرات فقد أدَّى حقّهما في الدعاء ،
أيْ لا بدّ أن تدْعُوَ لِوَالديك في الصلوات الخمس : ربّ اغفر لي ولِوَالديّ ، ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؛
إنّ الرجل لَتُرْفعُ درجتهُ في الجنّة ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك ،
وهو في الجنّة تُرْفع له درجته ، يقول يا ربّ أنى لي هذا؟ قال : باستغفار ولدك لك .
الابن الصالح يرفع منزلة والديه
مَن كان له ولد فَجَهِدَ في تربيتِهِ ، وفي توجيهه ، وفي حُسْن تربيَتِهِ ، وفي تعليمه القرآن ، وفي تعليمه أحكام الشريعة ، إلى أنْ أصبح هذا الابن مؤمنًا مستقيمًا برًّا رحيمًا ،
هذا الابن هو اسْتمرار إلى الأبد ، اسْتِمرار لك ، وأنت في الجنّة تُرفع منزلتك ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك.