السبت , أبريل 20 2024

فضل بر الوالدين | د. محمد راتب النابلسي

هذه المادة عن فضل بر الوالدين للدكتور محمد راتب النابلسي، وهى مادة مختصرة بتصرف من نص خطبة جمعة منشوره عبر موقعه الرسمي.

ذات صلة:

تكليف بر الوالدين

شاع بين المسلمين عُقوق الوالدين ، وعُقوق الوالدين من أكبر الكبائر.

ليس في الدِّين أمْرٌ للآباء بِرِعاية الأبناء، لأنّ هذا مركّبٌ في طبْعهم ، وفي أصل تَكوينهم.

ولكنّ برّ الأبناء للآباء تكليفٌ، ومعنى أنَّه تكليف أنَّهُ ذو كُلْفةً يقتضي كلفةً وإرادةً ، يقتضي بذْلاً ، يقتضي عطاءً.

أن تفْعَلَ شيئًا وفْق طبْعِكَ شيء ، وأن تفْعَلَ شيئًا بِخِلاف طبْعِكَ شيءٌ آخر ، إنَّك لن ترقى إلا إذا فعلْتَ شيئًا بِخلاف طبْعِك.

قال تعالى : “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى”  سورة النازعات : 40

 

بر الوالدين و من أعظم أعمال الإسلام

الإنسان يُثابُ على أعماله التي تُخالفُ طبْعهُ أكثر ممَّا يُثاب على أعماله التي توافق طبْعَهُ ،

لذلك برّ الوالدين يُثابُ صاحبُه عليه في الدنيا توفيقًا ونجاحًا ، وفي الآخرة سعادةً وخلودًا ،

إنّ هذا التكليف – ِبِرّ والِدَيك – من الأهَمِيَّة بحيث قرَنَهُ الله عز وجل بِعِبادَتِهِ ،

والاقْتِران عن طريق العَطْف يُفيدُ التوافُقَ والمشاكلة ، والمشابهة والاشْتِراك ، قال تعالى :

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ [ سورة الإسراء : 23]

وقرن شكره بشكر الوالدين،  قال تعالى : ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [ سورة لقمان : 14]

وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال :

((أحب الأعمال إلى الله سبحانه الصلاة على وقتها ، ثم بر الوالدين ، ثم الجهاد في سبيل الله ))  [البخاري عن عبد الله]

فَبِرُّ الوالدين من خِلال هذا الحديث هو أعظمُ الأعمال في الإسلام

بعد الصلاة التي هي عِماد الدِّين ، وعِصام اليقين ، وسيّدةُ القربات ، وغرّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى ربّ الأرض والسموات .

 

بر الوالدين عند الكبر

﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ [ سورة الإسراء : 23]

أرأيْتُم كلمة عندَكَ؟ ، أي هم عندك ، بعدَ أن كنْتَ أنت عندهم.

الطّفل إذا كان صغيرًا ، الطّفل الصغير الضعيف هو عند والدَيْه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وتربِيَةً ،

وحين تقدَّمَتْ السِنّ بالأب ، فأصبحَ الأب عند ابنه مكانًا ونفقَةً ورِعايَةً وترْبِيَةً ،

ربّما لا يجد الإنسان مشقَّةً في برّ والدِه الشابّ ،

ولكنّ الأب إذا تقدَّمَت به السنّ أصْبحَتْ حاجاتهُ كثيرة ،

وقد يُصبحُ كلامه كثيرًا ، وقد يصبحُ تدخُّلُه كثيرًا ،

فإذا بلغَ من الكِبَر وهو عندك هو في أمسّ الحاجة إليك ، إلى عطْفكَ ، وإلى حِلْمِكَ ، وإلى رحمتك ، وإلى رعايتك ، وإلى ترْبيَتِكَ ،

قال تعالى : ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾

برُّ الوالدين تكليف ، ربّما شعرَ الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنّ أباهُ عبءٌ عليه ،

ربّما شعر الإنسان البعيد عن الله عز وجل أنَّ أُمّه عبءٌ عليه ، ومصْلحتُهُ مع زوْجتهِ ، مصْلحتُه مع رفاقه ومع أصدقائه ،

فهذا الأب الذي تقدَّمَتْ به السنّ ، وهو في أمسّ الحاجة إليك ربّما أصبحَ عبئًا عليك ، لذلك جاء الأمر الإلهي.

كلمة أف ليسَتْ كلمة ، إنَّها نَفَسٌ مَسْموع ، زفيرٌ مَسْموع ، زفيرٌ بِصَوْتٍ عالٍ .

أُفّ اسم فعل مضارع ، بِمَعنى أتضجَّر ،

والإنسان إذا تضجَّر قال : أفّ ، أو تنفَّسَ بِصَوٍت مَسْموع ، أو أرْجَعَ الهواء من رئتَيْهِ بِصَوتٍ مَسْموع أيْ كان زفيرهُ مَسْموعًا .

العلماء حملوا على هذه كلَّ فِعْلٍ كإغلاقٍ باب ،

وكلّ كلمةٍ ، أو كلَّ نظرةٍ تُساويها في الإساءة إلى الأم والأب ، في القرآن منْطوق ، وفي القرآن مفهوم ،

فكَلِمَة ولا تقل لهما أُفٍّ يُساويها أنْ تشُدّ نظرك إلى أبيك ،

يُساويها أن تغلق الباب بِعُنْف ،

يُساويها أن تحرِّك يدَيْك تضجُّرًا ،

أيّ فِعْلٍ ، أو أيَّةُ كلمة ، أو أيَّةُ إشارة، أو أيّة عبارة ، أو أيّة حركة ، أو أيُّ تصرُّفٍ يُساوي كلمة أفّ فهي تأخذ حكمها ،

لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

” رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه – أيْ خابَ وخسر – من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثمّ لمْ يدخُل الجنّة ”

 

عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر

أكَّدَ العلماء أنّ من العقوق أن يشْتم الرجل والدَيْه ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر . .

(( من الكبائر شتْم الرجل والديه))  [مسلم عن عبد الله بن عمر ]

وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

((من أحْزَنَ والِدَيْه فقد عقَّهما )) [ كنز العمال عن علي]

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال :

((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ،

قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور.))

[متفق عليه عن أبي بكرة ]

 

بر الوالدين المسلمين وغير المسلمين

قد يقول قائلٌ : والديّ ليس على الحق ، ليس مستقيماً ، لا يصلّي ويفعل المنكرات ،

يقول العلماء : لا يختصّ بِرُّ الوالدين بأنْ يكونا مسلمين ، ففي صحيح البخاري عن أسماء قالت :

(( قدمت عليّ أمي وهي مشركة ، في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فاستفتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت وهي راغبة : أفأصل أمي ؟

قال : نعم صلي أمك? )) [البخاري عن أسماء]

وقد قال بعض المفسّرين : إنّ الله سبحانه وتعالى أنْزل عقب هذه الحادثة قوله تعالى :

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

[ سورة الممتحنة : 8]

 

أعظم الناس حقاً على المرأة والرجل

وفي الصحيح عن أبي هريرة . . .

” من أحقّ الناس بحُسن صحابتي ؟ قال : أمّك ثلاث مرات . . .”

فحقُّ الأمّ ثلاثة أمثال حقّ الأب ،

وسئل صلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس حقًّا على الرجل ؟

فقال : أمّهُ ،

فلما سئل : من أعظم الناس حقّا على المرأة ؟ قال : زوجها .

وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنهُ في الجهاد

فقال : أحَيٌّ والدك؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهِد.

فَبِرُّ الوالدين يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله.

وقد روَتْ الكُتب أنّ رجلاً خاصمّ امرأتهُ على ولدٍ لهما ، أيّهما أحقّ بِحَضانته ،

فقالتْ المرأة للقاضي : أنا أحقّ به لأنّني حملْتهُ تسْعة أشهرٍ ثمّ وضَعْتهُ ، ثمّ رضّعته إلى أن ترعْرع بين أحضاني ،

فقال الرجل : أيها القاضي أنا حملْتُ قبل أن تحملهُ ، ووضعْتُهُ قبل أن تضعهُ ، فإن كان لها بعض الحقّ فيه ، فَلِيَ الحقّ كلّه أو جلّه ،

فقال القاضي : أجيبي أيّتها المرأة

قالت : لئِنْ حَمَلَهُ خِفًّا ، فقد حمَلْتُهُ ثقلاً ، ولئِنْ وضَعَهُ شهوةً فقد وضَعْتهُ كُرْهًا ،

فقال القاضي : اِدْفَع إلى المرأة غلامها ودَعْني من سَجْعك .

 

بر الوالدين المتوفيين

جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :

يا رسول الله هل بقي عليّ من بِرِّ والديّ مِن بعد موتهما شيءٌ ؟

فقال :

نعم ؛ الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهْدِهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرّحِمَ التي لا رَحِم لك إلا من قبلهما.

أما الصلاة عليهما ففي بعض الآراء هي صلاة الجنازة ،

لكنّ بعض العلماء وسَّعَ هذا المفهوم وقال : الصلاة عليهما هي الدعاء لهما بالرحمة ، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال :

﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾[ سورة الإسراء : 24]

ففي صحيح مسلم والبخاري:

(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ….ولد صالح يدعو له ))  [ متفق عليه عن أبي هريرة ]

وقد قال بعض التابعين :

من دعا لِوَالِدَيه في اليوم خمْس مرات فقد أدَّى حقّهما في الدعاء ،

أيْ لا بدّ أن تدْعُوَ لِوَالديك في الصلوات الخمس : ربّ اغفر لي ولِوَالديّ ، ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا .

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؛

إنّ الرجل لَتُرْفعُ درجتهُ في الجنّة ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك ،

وهو في الجنّة تُرْفع له درجته ، يقول يا ربّ أنى لي هذا؟ قال : باستغفار ولدك لك .

 

الابن الصالح يرفع منزلة والديه

مَن كان له ولد فَجَهِدَ في تربيتِهِ ، وفي توجيهه ، وفي حُسْن تربيَتِهِ ، وفي تعليمه القرآن ، وفي تعليمه أحكام الشريعة ، إلى أنْ أصبح هذا الابن مؤمنًا مستقيمًا برًّا رحيمًا ،

هذا الابن هو اسْتمرار إلى الأبد ، اسْتِمرار لك ، وأنت في الجنّة تُرفع منزلتك ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *