السبت , أبريل 20 2024

الهجرة وأسس المجتمع الجديد

الهجرة وأسس المجتمع الجديد ، مقالة من موقع قصة الإسلام عن أهمية الهجرة في كل زمان، وتتناول كيفية الهجرة ومقوماتها وصفات رجالها من المهاجرين.

دليل الهجرة النبوية | الأحداث والصور والميديا

الهجرة وأسس المجتمع الجديد

إن الهجرة النبوية ليست حادثًا عابرًا، ولا حادثًا عاديًَّا كحوادث الدهر، بل هي حادث لم يكن تأثيره على العرب أو المسلمين فقط بل على العالم كله.

إن الهجرة كانت بناء لخير أمة أخرجت للناس، ولعل أهم ما يمكن أن نستفيد من هذا الحادث العظيم، أن أمة الإسلام لن تبنى من جديد، أو تعود لها مكانتها الخالدة، أو يكون لها التمكين في الأرض إلا بالهجرة.

فلا تمكين بلا هجرة، وأمة لا هجرة لها لا تعرف النصر، فكيف تكون هذه الهجرة؟ وما هي مقوماتها؟ وما صفات رجالها من المهاجرين؟

 

كيفية الهجرة

والجواب عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”.

نعم، لا هجرة بمعنى الهجرة من بلد لآخر بعد الفتح؛ فدولة الإسلام قائمة، والمسلمون في شوكة وفي عزة.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى ما يمكن أن نسمِّيه طريق نصر الأمة، وهو الإخلاص لله في كل عمل والجهاد بكل وسع.

وإذا استنفر المسلمون للجهاد فلا بد من الجهاد، والجهاد هنا بكل أنواعه من جهاد بالكلمة وجهاد بالقوة ما توافرت شروطه، وجهاد بالقلم، وجهاد بالمال، وجهاد بالنفس، وجهاد النفس هو أعظمها.

فمن قام الليل يصلي وينفض عن وجهه غبار النوم، وغيره غارق في لهوه وشهوته، فهو من المهاجرين.

ومن غض بصره عن الحرام وحصن فرجه من الزنا في زمنٍ غرق فيه الشباب في براثن الرذيلة والفواحش، فهو من المهاجرين.

ومن عفت يده عن الحرام وأخذ الرشوة وأكل مال اليتيم وأخذ الربا في زمن تغلل فيه الحرام إلى النخاع، وطرق أبواب المتقين فهو من المهاجرين.

ومن تركت التبرج والزينة الحرام وصانت نفسها عن أعين الذئاب واللئام وأخوات لها كاسيات عاريات، فهي من المهاجرات.

ومن جد في عمله واجتهد وأبدع في مجاله وتميز في زمنٍ ماتت فيه الضمائر وخارت فيه العزائم، فهو من المهاجرين.

وصور الهجرة هنا كثيرة لا تعد ولا تحصى، فلنكن من المهاجرين.

 

مقومات بناء الأمة

الآن وبعد أن عزمنا على الهجرة وعقدنا النية لله عز وجل، فماذا عن مقومات بناء أمتنا التي نسعى لبنائها؟

إن مقومات بناء الأمة الآن لا تعدو مقومات بناء الأمة التي أشرف على بنائها محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي:

أولاً: بناء المسجد.  ثانيًا: الأخوة بين المسلمين.  ثالثًا: وضع الدستور الإسلامي.

 

أولاً: بناء المسجد:

فمن المعلوم أن أول عمل قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة هو الشروع -وبكل وسيلة وقوة- في بناء الجامعة الأولى التي سيتربى فيها المسلمون ويتعلمون فيها عقيدتهم وشريعتهم.

الجامعة الأولى التي سيتخرج فيها المجاهدون العظام الذين سيحملون راية الجهاد ويضحون بكل غالٍ وثمين من أجل هذا الدين.

البيت الذي سيتربى فيه الصغار قبل الكبار، البيت الذي سيلتقي فيه المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة، والمكان الذي ستقام فيه الصلوات وتعقد فيه الجُمُعات.
والمكان الذي سيتعلم فيه المسلم أخلاق دينه، ولعل أبرزها النظام والآداب، كل ذلك يجمعه المسجد.

ولا عجب في هذا القرار، فإن المجتمع المسلم الجديد لا بد أن يكتسب صفة الرسوخ والتماسك والوحدة، وخاصة في هذه المرحلة العصيبة والخطيرة من بناء الأمة.

هذا كله يتأتي مع روح المسجد وآدابه، فكانت الخطوة الأولى المسجد، والمسجد قبل كل شيء.

إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع روح الأخوة والتآخي، وهذا لا يكون إلا في المسجد.

فما لم يتلاق المسلمون يوميًّا فيما لا يقل عن خمس مرات في اليوم والليلة، تذوب فيها فوارق الجاه والمال، لا يمكن لروح التآلف والوحدة أن تأتي.

وما لم يتلاق المسلمون في اليوم كل يوم صفًّا واحدًا بين يدي الله عز وجل، وقد وقفوا على صعيد مشترك، وهو صعيد العبودية لله الواحد الأحد..

لا يمكن أن تتحقق العدالة والمساواة بين المجتمع، بل تتعالى الأنانية والذاتية فيما بينهم، والعدل والمساواة لن تتحققا إلا في المسجد.

وما لم يتلاق المسلمون في اليوم أكثر من خمس مرات في اليوم والليلة، وقد اجتمعا على ذكر واحد وحكم واحد وشرع واحد ودستور واحد يرجعون إليه إذا اختلفوا، ويرتدون إليه إذا تنازعوا…

لا يمكن أن يتماسك المجتمع الواحد، فتتصارعه الأهواء والأفكار الخارجة عن الشرع، ويعيش الجميع بلا علم وبلا معرفة وبلا بصيرة.

وهذه المعرفة وهذه البصيرة لن تتحقق إلا بالمسجد، الجامعة التي يلتقي فيها المسلمون كل المسلمين.

هكذا للمسجد دوره الذي كان، والذي حتمًا سيكون.

 

ثانيًا: الأخوة بين المسلمين:

كان هذا هو الأساس الثاني الذي أشرف عليه رسول الله بنفسه في المدينة، فقد آخى بين المهاجرين والأنصار.

وضرب الأنصار المثل الرائع والقدوة العملية في معاني الأخوة والتآخي والوحدة والإيثار.

فماذا عن أهمية الأخوة في المجتمع؟

فكما لا يبنى البيت بالحجارة المتفرقة لا تُبنى الأمة بالرجال المتنازعين..

إن أي دولة لا تنهض ولن تقوم إلا على أساس الوحدة والتساند بين أفراد المجتمع أجمعين.

وهذه الوحدة لا تكون إلا بالتآخي والترابط والمحبة وشيوع روح التعاون والألفة المتبادلة.

فكل جماعة لا تؤلف بين عناصرها، وكل مؤسسة لا تراعي توفير المحبة، وكل جمعية لا تقوم على أساس التعاون والتآخي..
فإن مصيرها الزوال، وطريقها نحو الفشل، وسيكون مرضها التفكك العضال الذي لا شفاء له إلا الوحدة.

وأخطر من هذا إذا كانت هذه الوحدة على أساس من العقيدة الخاوية، أو الدين المفكك أواصره المنحل جوانبه.

فهذه الوحدة مصيرها الهلاك، وهي ضرب من الوهم والخرافة؛ لأنها قائمة على المصلحة، وما قام على مصلحة انفرط عقده بزوال المصلحة.

لذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الترابط والوحدة على أساس العقيدة، التي منبعها المسجد.

فتصبح العقيدة واحدة والفكر واحدًا؛ إذ لا يعقل أن تقوم الوحدة ويشيع الإيثار بين أناسٍ عقائدهم مشتتة، وأفكارهم مختلفة، وتوجهاتهم متناقضة، عندئذٍ يصبح كل منهم ملكًا لأثرته وأنانيته وأهوائه.

على أن هذا الأساس لم يكن وليد الهجرة، بل كان هذا الأساس متينًا منذ البعثة، والإسلام مستضعَف في مكة.

فقد ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين:

الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة، فكان من ذلك إخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب.

ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة[1].

أما آن للمسلمين أن يعوا هذا الأساس الذي أقامه المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟!

أما آن للشعوب أن تنسى الماضي الحزين وترسم للمستقبل المشرق؟!

أما آن لحكام المسلمين أن يقهروا ضغائن أنفسهم، ويشيعوا التعاون فيما بينهم؟!

أما آن للمسلمين أن يبنوا أمتهم على أسس دولة نبيهم؟! أما آن…؟! أما آن…؟!

 

ثالثًا: وضع الدستور الإسلامي بين المسلمين وغيرهم:

لن نخوض في غمار البنود والشروط والتي تضمنها أول دستور منصف عرفته البشرية، والذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإنما نأخذ بعض الدلائل التي نستشفها في الواقع المعاصر.

لم تمض أيام على الهجرة النبوية وبزغ نور الإسلام في ربوع المدينة حتى لم يبق بيت إلا ودخله الإسلام.

هنا كانت نظرة الوحي الموفق والقيادة البارعة والسياسة الحكيمة، فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وَادَع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم[2].

فكان دستور المدينة بين المهاجرين والأنصار واليهود، أي: المسلمون في المدينة ومن معهم من الأقليات.

ولعل كلمة الدستور هنا موافقة لمصطلحات العصر الحديث، والذي كان بمنزلة وثيقة العدل والحرية والمساواة بين جميع طوائف الشعب.

فقد شمل هذا الدستور ما يمكن أن يشمله دستور أمة ذات قيم ومبادئ، ووضع الخطوط الداخلية والخارجية لنظام الدولة والعلاقة بين الحكومة والشعب، وبين الشعوب بعضها ببعض.

كل ذلك تحت قيم الإسلام ومبادئه العادلة، وهذه المقومات تعد أساسًا لتطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع.

فالمجتمع الإسلامي قام منذ نشأته على أسس دستورية تامة، وإن الدولة الإسلامية قامت -منذ أن بزغ فجرها- على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية[3].

ولا ننسى أن هذه الوثيقة أعطت لليهود كافة حقوقهم الدستورية والاجتماعية، وكان لهذه الوثيقة أن تعطي لهم الأمن والأمان في المجتمع الذي تسوده روح الأخوة والتعاون.

لولا أن تغلبت روح المكر والخداع على طبائعهم، فكانت الخيانة الأولى في بني قينقاع وهتكهم عرض المرأة المسلمة وقتلهم الرجل المسلم.

ثم محاولة الغدر والاغتيال لرسول الله في بني النضير.

وثالثها أشد وطأة وهي نقض العهد والتربص بالمسلمين وإمداد الأحزاب المشركين بكل مساعدة من أجل هزيمة المسلمين في الخندق، فكانت غزوة بني قريظة.

ورابعها التمرد المسلح على المسلمين في خيبر، والتي بها أجلى الله عز وجل اليهود خارج الجزيرة العربية، ولم يعد لهم بها عيش…

بعد أن كانوا أعزة في ظل العدالة الدستورية التي كفلها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول دستور عادل عرفته البشرية.

وبعد؛

إن دولة الإسلام لما قامت على هذه الأسس وطبقت الشريعة الإسلامية أعظم تطبيق كتب لها التمكين في الأرض.

فكانت دولة الإسلام من بلاد الصين شرقًا إلى بلاد المغرب العربي غربًا، وكانت جحافل الجيوش وسنابك الخيول تدق معاقل الروم والفرس حتى خضعا لقوة الإسلام وعدالته.

كما كانت مدافع المسلمين تدك أسوار فيينا مرتين لا تبالي بعدوٍّ، ولا تخاف من متربص.

فلما بعدنا عن هذه الأسس صار حالنا كما نرى، ولن تعود للأمة مكانتها ولن يعود للإسلام هيبته إلا بعودة صادقة وهجرة مخلصة وعمل للإسلام دءوب.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

[النور: 55].

……………………..

[1] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/210.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 3/31.

[3] د. سعيد البوطي: فقه السيرة النبوية ص152. ط. دار السلام، 2008م- 1429هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *