كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عضل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القراء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق.
السيرة النبوية
عرض وقائع وتحليل أحداث
للدكتور علي محمد الصلابي
الجزء الثاني
====================================
الفصل الثاني عشر
ما بين غزوة الأحزاب والحديبية وأحداث مهمة
المبحث الأول: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها
أولاً: اسمها ونسبها
ثانيًا: زواجها من زيد بن حارثة رضي الله عنها
ثالثًا: طلاق زيد لزينب رضي الله عنها
رابعًا: الحكمة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب
خامسًا: قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب وما فيها من دروس وعبر
المبحث الثاني: الآن نغزوهم ولا يغزوننا
أولاً: سرية محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء
ثانيًا: سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر
ثالثًا: سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل
رابعًا: تأديب الغادرين: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة وغيرهما
خامسًا: سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين
المبحث الثالث: تصفية المحرضين على الدولة
أولاً: سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق
ثانيًا: سرية عبد الله بن رواحة إلى اليسر بن رزام اليهودي
====================================
الفصل العاشر
أهم الأحداث ما بين أحد والخندق
المبحث الأول
محاولات المشركين لزعزعة الدولة الإسلامية
كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عضل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القراء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق.
أولاً: طمع بني أسد في الدولة الإسلامية:
بلغت النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عيونه المنبثة في الجزيرة العربية أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعا في خيراتها، وانتصارا لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تشكيل سرية في مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وأمَّر عليهم أبا سلمة بن عبد الأسد( )، المخزومي وعقد له لواء، وقال له: «سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم»( ). فسار إليهم أبو سلمة في المحرم( ) فأغار على أنعامهم، ففروا من وجهه فأخذها، ولم يلق عناء في تشتيت أعداء الإسلام، وعاد إلى المدينة مظفرًا، وأبو سلمة يعد من السابقين إلى الإيمان ومن خيرة الرعيل الأول، وقد عاد من هذه الغزوة متعبًا، إذ نَغَر جرحه الذي أصابه في (أحد) فلم يلبث حتى مات( ). ونلحظ في هذه السرية عدة أمور منها: الدقة في التخطيط الحربي عند النبي صلى الله عليه وسلم حيث فرق أعدائه قبل أن يجتمعوا, فذهلوا لمجيء سرية أبي سلمة وهم يظنون أن المسلمين قد أضعفتهم وقعة أحد وأذهلتهم عن أنفسهم، فأصيب المشركون بالرعب من المسلمين، ووهنت عزيمتهم، وانشغلوا بأنفسهم عن مهاجمة المدينة، وتظهر دقة المسلمين في الرصد الحربي واختيارهم التوقيت الصحيح والطريق المناسب، حيث وصلوا إلى الأعداء قبل أن يعلموا عنهم أي شيء رغم بعد المسافة، وكان هذا هو أهم عوامل نجاح المسلمين في هذه السرية، وتركت هذه السرية في نفوس الأعداء شعورًا مؤثرًا على معنوياتهم، ألا وهو قناعتهم بقدرة المسلمين على الاستخفاء والقيام بالحروب الخاطفة المفاجئة تجعلهم يمتلئون رعبا منهم ويتوقعون الإغارة في أي وقت، وهذا الشعور حملهم على الاعتراف بقوة المسلمين، ومسالمتهم( ).
ثانيًا: خالد بن سفيان الهذلي وتصدي عبد الله بن أنيس له:
قام خالد بن سفيان الهذلي يجمع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقربًا إليها، ودفاعًا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعًا في خيرات المدينة, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلفه مهمة قتله( ). وهذا عبد الله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني» وهو بعرنة فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله انعته حتى أعرفه، قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».
قال: فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، حين كان وقت العصر, فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: «أفلح الوجه» قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت»، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس».
قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون( ) يومئذ يوم القيامة» فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا)( ).
وفي هذا الخبر فوائد ودروس وعبر منها:
1- دقة الرصد الحربي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي للجانب الأمني أهميته؛ ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعد بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزم؛ وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار.
2- فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الرجال: كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر( ). فقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان( ). وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه (جهينة) ( ).
3- المكافأة على هذا العمل أخروية: لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنيوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله( ), فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر المتقين لا ينتظرون جزاء في الدنيا, ولو حصلوا على شيء من متاع الدنيا فإنه لا يعتبر عندهم شيئًا كبيرًا، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة, ولهذا كانت مكافأة عبد الله بن أنيس تلك العصا التي ستكون علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة، وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة( ).
4- بعض الأحكام الفقهية: تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبًا كان له أن يصلي إيماء، وإذا كان طالبًا نزل إن كان راكبًا وصلى بالأرض راكعًا وساجدًا( )، وكذلك قال ابن المنذر( )، أما الشافعي فشرط شرطًا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين، وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء.
قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس( )، وقد ذكر بدر العيني في عمدة القاري مذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبًا فلا بأس بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء, كل واحد منهما يصلي على دابته.
وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة, وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور.
وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا( ).
5- جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, فعبد الله بن أنيس أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم, مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء( ).
وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه؛ لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه( ).
6- من دلائل النبوة: فقد وصف صلى الله عليه وسلم خالد بن سفيان الهذلي لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن يراه حتى أن ابن أنيس عندما رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبًا كما وقع في رواية الواقدي: (يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته»( ) وقد وجد عبد الله بن أنيس خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله: فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله( ).
7- ما قاله عبد الله بن أنيس من الشعر في قتله لخالد الهذلي:
نوائح تفري كل جيب مقدد
تركت ابن ثور كالحوار وحوله
بأبيض من ماء الحديد المهند
تناولته والظعن خلفي وخلفه
أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد
أقول له والسيف يعجم رأسه
حنيف على دين النبي محمد
وقلت له خذها بضربة ماجد
سبقت إليه باللسان وباليد( )
وكنت إذا هم النبي بكافر
ثالثا: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع:
اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو( ), فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام)( ), ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي( ) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة( ).
وهكذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة( )، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر( ), وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
النبل والقوس لها بلابل( )
ما عِلَّتي وأنا جلد نابل
الموت حق والحياة باطل
تزل عن صفحتها المعابل
بالمرء والمرء إليه آثل
وكل ما حمّ الإله نازل
إن لم أقاتل فأمي هابل( )
فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه, فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا وكان يقول وهو يقاتل:
ورثت مجدًا معشرًا كرامًا
أنا أبو سليمان ومثلي رامي
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشُّهيد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين: الحارث، ومسافعًا، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف( ) رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان, فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته, فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه( ).
لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين, فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم, وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش( ), وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ( ).
فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو( ), ثم قال: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا( ) ولا تبق منهم أحدًا) ثم قال:
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا
عليَّ لأني في وثاق بمضيع
وكلهم مبدي العداوة جاهد
وقربت من جذع طويل ممنع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس( ) مطمعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وقد خيروني الكفر، والموت دونه
وإن إلى ربي إيابي ومرجعي
وما بي حذار الموت إني لميت
على أي شق كان في الله مضجعي
ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا
يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي( )
فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه( ), ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلا، فذهب به ودفنه( ). وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا( ).
وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده، وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها:
1- فوائد ذكرها ابن حجر: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك, وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.
وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًّا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له من حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة, ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه( ).
2- بين التسليم والقتال حتى الموت: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن مترقبًا الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد، ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم, لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه( ).
وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين بابًا واسعًا في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذا طلبوا مظلومين, أو اختيارهم القتال حتى الموت, ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية( ).
3- تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم: وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها, ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموسى لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة( ).
4- الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد: عندما استعار خبيب موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله( ).
إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الإسراء: 15].
إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة( ).
وفي قول خبيب : (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة( ). وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم, وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم( ).
5- حب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة: إن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر, ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم؛ فبالتالي كان حبهم
له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر( ).
ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي( ).
وهذا الحب من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»( ).
6- مما قاله حسان في ذم بني لحيان: تأثر المسلمون بمقتل أصحاب الرجيع تأثرًا بالغًا، وكان حسان بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه، ومن يستحق المدح مدحه, فقال في هجاء بني لحيان:
فأت الرجيع فسل عن دار لحيان
إن سرك الغدر صرفًا لا مراج له
فالكلب والقرد والإنسان مثلان
قوم تواصوا بأكل الجار بينهم
وكان ذا شرف فيهم وذا شان( )
لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم
رابعًا: طمع عامر بن الطفيل في المسلمين وفاجعة بئر معونة (4هـ):
عامر بن الطفيل زعيم من زعماء بني عامر كان متكبرًا متغطرسًا، طامعًا في الملك، وكان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف تكون له الغلبة على الجزيرة العربية؛ ولذلك جاء هذا المشرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك السهل، ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك من بعدك, أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء( ). فرفض صلى الله عليه وسلم تلك المطالب الجاهلية، وجاء إلى المدينة ملاعب الأسنة سيد بني عامر عم عامر بن الطفيل وقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني لا أقبل هدية من مشرك، فقال ملاعب الأسنة: فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له المعتق ليموت أو أعتق الموت, فاستجاش( ) عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية( ). ومن حديث أنس قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس, من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت وربِّ الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا»( ).
وفي هذه الحادثة المؤلمة، والفاجعة المفجعة دروس وعبر وفوائد منها:
1- لا بد للدعوة من تضحيات: رأينا كيف غدر حلفاء هذيل بأصحاب الرجيع من القراء، الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم معلمين ومفقهين في غزوة الرجيع، وها هنا عامر بن الطفيل يغدر بالسبعين القراء، الذين استنفروا للدعوة إلى الله، والتفقيه في دين الله في مجزرة رهيبة دنيئة، وذلك في يوم بئر معونة.
وقد تركت هذه المصائب في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم آثارًا غائرة، بعيدة الأعماق حتى إنه لبث شهرًا يقنت في صلاة الفجر، داعيًا على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله( ). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: (سمع الله لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية, ويؤمِّن من خلفه( ), قال أنس بن مالك : وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت( ).
لكن ذلك لم يفت في عضد المسلمين، ولا فتر من حميتهم في الدعوة إلى الله, ولا كسر من عزمهم في مواصلة الدعوة وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يمكن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات واسترخاص التضحيات من أجلها.
إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة تلفها الكتب وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن.
إن حادثتي الرجيع وبئر معونة تبصرنا بالمسئولية الضخمة عن دين الله، والدعوة إليه، ووضعت نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام من أجل عقيدتهم ودينهم ومرضاة ربهم.
إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة: دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه, وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة( ).
2- فزت ورب الكعبة: صاحب الكلمة حرام بن ملحان فعندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة)( )؛ إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجرًا يتأثر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لا تصفر وجوههم فزعًا من الموت، وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة( ). وهذا المنظر البديع الرائع الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: فزت ورب الكعبة، وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: إن مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي: ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببًا لإسلامه( ).
وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟
وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في قوله: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» ( ).
فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل, لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه مكافأة بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا بمن فيها، فعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه»( ).
هذا بالإضافة إلى الوسام المميز المشرف الذي يأتي به يوم القيامة، وجرحه كهيئة يوم جُرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك( ).
كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم( ), قال تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران: 169].
3- عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للغيب: إن حادثتي بئر معونة والرجيع وغيرهما تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، كما دلت على ذلك أدلة أخرى منها قوله عز وجل: ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ ) [الأعراف: 188].
فالله عز وجل وحده عالم الغيب، والرسل والملائكة لا يعلمون عن الغيب إلا ما علمهم ربهم عز وجل( ): ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) [الجن: 26].
4- الوفاء بالعهد: وقع عمرو بن أمية الضمري أسيرًا في بئر معونة، ولما علم عامر ابن الطفيل أنه من مضر أطلقه، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فلما خرج عمرو قاصدا المدينة نزل في طريقه في ظلل والتقى برجلين من بني عامر، وكان معهم عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقال: من بني عامر، فأمهلهما، حتى ناما، عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين لأدينَّهما»( ). وهذا موقف رفيع فقد ودى صلى الله عليه وسلم ذينك الرجلين العامريين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري لكونهما يحملان عقدًا منه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤاخذهما بما فعل بعض أفراد قومهما، وهذا يمثل منتهى القمة في الوفاء بالعهود.
قد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتبر عمل عمرو بن أمية جزاء من الانتقام الذي ينبغي أن يواجه به المجرمون المعتدون، ولكن ما ذنب الأبرياء حتى يؤخذوا بجريرة المعتدين من قومهم؟.
إن التوجيهات الإسلامية الرفيعة دفعت بالمسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الرقي الأخلاقي الذي لا نظير له في دنيا الناس( ).
5- الصحابي الجليل عامر بن فهيرة : لما قُتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو ابن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وُضع( ).
6- حسان بن ثابت يحرض على قتل عامر بن الطفيل: كان حسان من رجالات المؤسسة الإعلامية، فكان يشن الحرب النفسية على الأعداء، وكان بجانبه كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- فلم يتركوا حدثا من أحداث السيرة إلا قالوا فيه شعرًا، وكل قصيدة للكافرين يردون عليها بقصائد، وقد علمنا ما أحدثه شعر حسان في طرد كعب بن الأشرف اليهودي، وكان صلى الله عليه وسلم يتعهد شعراء الدولة الإسلامية ويشجعهم على خوض هذا الباب من الجهاد، فعلى المسلمين المعاصرين قادة وزعماء وعلماء وفقهاء وجماعات أن يرعوا شعراءهم ويشجعوهم لخوص هذا الجهاد العظيم( ).
ولما بلغ حسان خبر أصحاب بئر معونة نظم أبياتًا تناقلتها الركبان يحث فيها ربيعة بن عامر ملاعب الأسنة ويحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمة أبي براء:
فما أحدثت في الحادثان بعدي
ألا من مبلغ عني ربيعًا
وخالك ما جد حكم بن سعد
أبوك أبو الفعال أبو براء
وأنتم من ذوائب أهل نجد
بني أم البنين ألم يرعكم
ليخفره وما خطأ كعمد( )
تحكم عامر بأبي براء
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء هذا الشعر، وكان الشعر عندهم أوجع من رشق النبل، وقطع السيوف للرقاب، وطعن النحور بالرماح، قام ربيعة بأخذ ثأر أبيه فضرب عامر بن الطفيل ضربة أشواه بها -أي لم تصب منه مقتلا- فوثب عليه قومه، وقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت، وإن عشت فسأرى رأيي فيما أتى إليَّ( ). ومما قاله حسان وهو يبكي قتلى بئر معونة، ويخص المنذر بن عمرو :
بدمع العين سحَّا غير نزْر( )
على قتلى معونة فاستهلي
مناياهم ولاقتهم بقدْر( )
على خيل الرسول غداة لاقوا
تُحُوّن عقد حبلهم بغدر( )
أصابهم الفناء بعقد قوم
وأعنق في منيته بصبر( )
فيا لهفي لمنذر إذ تولى
7- مصير عامر بن الطفيل العامري: استجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فقد دعا على عامر بن الطفيل فقال: «اللهم اكفني عامرًا»( ) فأصيب الطاغية بمرض عضال وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: «غدة كغدة البعير»( ) وسماه صلى الله عليه وسلم بـ «الطاعون», وهو وصف دقيق للطاعون الدبلي الذي يتميز (بارتفاع درجة الحرارة، وتضخم العقد الليمفاوية في منطقة الأُرب وتحت الإبط, وكذا تضخم الطحال)( ) وهو ما أصيب به عامر بن الطفيل حتى أصبح حبيسًا في بيت امرأة من قومه.
لقد أصيب عامر بن الطفيل وتلاشت أحلامه بالتملك على أهل المدن في الجزيرة العربية, أو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تلك الجيوش التي هدد النبي صلى الله عليه وسلم بها، فقد تحولت إلى آلام تحبسه في بيت امرأة قد ولى عنه الناس ونفروا منه خشية العدوى، ففقد صوابه، وصرخ بمن بقي حوله فقال: (غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه)( ). هلك ذلك الجبار العنيد كالمجنون بعد أن تطاير الناس من حوله خوفًا على أنفسهم من العدوى( ).
* * *
المبحث الثاني
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المساكين وأم سلمة وأحداث متفرقة
أولاً: زينب بنت خزيمة أم المساكين رضي الله عنها:
هي زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، فهي من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة. وكانت تسمى في الجاهلية «أم المساكين» لإطعامها إياهم، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرًا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرًا، ودفنت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
كانت زينب بنت خزيمة تحت عبد الله بن جحش بن رئاب الذي قتل في معركة أحد شهيدًا في سبيل الله تعالى، فتزوجها صلى الله عليه وسلم إكرامًا لها بعد أن فُجعت بقتل زوجها في معركة أحد، ولم يتركها أرملة وحيدة، فكأنه كافأها صلى الله عليه وسلم على فضائلها بعد مصاب زوجها( ).
ثانيًا: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة رضي الله عنها:
هي هند بنت أبي أمية حذافة بن المغيرة القرشية المخزومية، كانت زوجة ابن عمها أبي عبد الله بن عبد الأسد، وزوجها هذا هو ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب، وهو أيضا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقد هاجرت أم سلمة رضي الله عنها وزوجها أبو سلمة إلى الحبشة فرارًا بدينهما من المشركين, ثم رجعا إلى مكة وهاجرا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون( ).
1- حديث أم سلمة لأبي سلمة رضي الله عنهما:
قالت أم سلمة لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة، ثم لم تزوج إلا جمع الله بينهما في الجنة, فتعال أعاهدك ألا تزوَّج بعدي ولا أتزوج بعدك. قال: أتطيعينني؟ قالت: نعم, قال: إذا مت تزوجي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيرًا مني، لا يحزنها ولا يؤذيها، فلما مات قلت: من خير من أبي سلمة؟ فما لبث وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها فقالت: أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أتقدم عليه بعيالي، ثم جاء الغد فخطب( ).
2- دعاء أم سلمة لما توفي زوجها:
لما توفي زوجها أبو سلمة من أثر جراحات أصابته في قتاله للمشركين، وكانت تحبه وتجله، فلما مات أبو سلمة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال: «قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني ( ) منه عقبى حسنة» قالت: فقلت، فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدًا صلى الله عليه وسلم( ).
3- حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة عندما خطبها:
قال عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما: إن أم سلمة لما انقضت عدتها خطبها
أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحبًا: أخبر رسول الله أني غيرى( ), وأني مُصبية( ), وليس أحد من أوليائي شاهدًا.
فبعث إليها: «أما قولك: إني مصبية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي»( ).
وفي رواية: إني امرأة قد أدبر من سني، فكانت إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: «وأما السن فأنا أكبر منك»( ) وهكذا أحسن إليها صلى الله عليه وسلم الجواب، وما كان إلا محسنًا( ).
قالت أم سلمة: يا عمر (أي ابنها) قم فزوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم( )، قال ابن كثير في تعليقه على قول أم سلمة: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم: تعني قد رضيت وأذنت، فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان ذاك صغيرًا لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءًا مفردًا بينت فيه الصواب في ذلك, ولله الحمد والمنة، وأن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو أكبر( ) ولدها.
4- تأثيث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيت زينب ومعاملته لها:
فلما وافقت على الزواج قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أني لا أنقصك مما أعطيت فلانة رحيين وجرتين ووسادة من أدم حشوها ليف»( ).
وكانت أم سلمة قد ولدت طفلة من زوجها أبي سلمة بعد موته، فعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم جعل يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها, وكان صلى الله عليه وسلم حييًا كريمًا يستحي فيرجع ففعل ذلك مرارًا( ), ففطن عمار بن ياسر وهو أخ لأم سلمة من أمها (سمية) الشهيدة التي قتلها أبو جهل، فأطلق قدميه نحو بيت أخته أم سلمة، فأخذ ابنة أخته ليسترضعها في بيته أو عند إحدى النساء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين زناب؟» فقالت قريبة ابن أبي أمية ووافقها عندها( ): أخذها عمار بن ياسر فقال صلى الله عليه وسلم: «إني آتيكم الليلة».
قالت أم سلمة: فقمت فوضعت ثفالي( ), وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي، وأخرجت شحمًا فعصدته، ثم بات، ثم أصبح, وقال حين أصبح: «إن بك على أهلك كرامة، فإن شئت سبّعت( ) لك وإن أسبع لك أسبع لنسائي( ), وإن شئت ثلثت ثم درت» قالت: ثلِّث( ), فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام عند أم سلمة ثم قال صلى الله عليه وسلم: «للبكر سبع وللثيب ثلاث»( ) هي مدة إقامة المتزوج عند زوجته إذا كان عنده غيرها.
أقام صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة رضي الله عنها ثلاثة أيام سعيدة, ثم رتب لها يومًا كبقية زوجاته.
5- تغيير اسم برة بنت أبي سلمة:
تقول تلك الطفلة اليتيمة -رضي الله عنها-: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة حين تزوجها واسمي برة، فسمعها تدعوني برة، فقال: «لا تزكوا أنفسكم, فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سمِّها زينب».
فقالت أم سلمة: فهي زينب( ).
وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم, فقد كان يحب الأسماء الجميلة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغير أسماء الأطفال فقط، بل كان للرجال والنساء والعجائز نصيب من ذلك الذوق النبوي الرفيع، فقد ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: شهاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنت هشام» ( ).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حوله( ), إلى اسم أجمل وألطف, وكان يفعل ذلك مع العجائز صلى الله عليه وسلم. فهذه عائشة رضي الله عنها تحدثنا، حيث تقول رضي الله عنها: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قالت: جثامة المزنية. فقال: «بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟» قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فقرب إليه لحم، فجعل يناولها، فقلت: يا رسول الله لا تغمر يدك، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان»( ).
6- الحكمة في زواج أم سلمة:
والحكمة في هذا الزواج -كما يقول صاحب تفسير المنار-: ليس لأجل التمتع المباح له، وإنما كان لفضلها الذي يعرفه المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية، ولتعزيتها أي بوفاة زوجها( ), ولا ننسى كذلك أن أم سلمة من بني مخزوم أعز بطون قريش، وهي التي كانت تحمل لواء الحرب والمواجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء هذا الزواج تفتيت حقد هذه القبيلة وتقريب قلوب أبنائها، وتحبب إليهم ليدخلوا في الإسلام بعد أن صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وفي هذا الزواج فقه النبي صلى الله عليه وسلم في البناء الداخلي للأمة، وتأدية حق الشهداء في زوجاتهم، وحق هذه الزوجات من أن ينهلن من نور النبوة ما يشاء الله أن ينهلن لكي يبلغن عن رسول الله( ).
وكانت أم سلمة آخر من مات من أمهات المؤمنين، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وقد روت عن رسول الله أحاديث, يبلغ مسندها ثلاثمائة وثمانية وثمانين حديثًا، واتفق البخاري ومسلم على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثلاثة عشر( ). لقد ساهمت في نشر العلم والحكمة عن رسول الله وبموتها انطفأ آخر مصباح من مصابيح أمهات المؤمنين طالما شع النور والهدى والعلم, فرضي الله عنها وأرضاها( ).
ثالثًا: مولد الحسن بن علي رضي الله عنهما:
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: ولد الحسن في شعبان من السنة الرابعة وعلى هذا ولد الحسين قبل تمام السنة من ولادة الحسن، ويؤيده ما ذكره الواقدي أن فاطمة علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة. وجزم النواوي في التهذيب أن الحسن ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة( ).
يقول علي بن أبي طالب : لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أروني ابني.. ما سميتموه؟» قلت: حربًا، قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو حسن»( ).
وهكذا غيَّر صلى الله عليه وسلم ذلك الاسم الحاد باسم جميل يدخل السرور والفرحة على القلب.
فحمل المولود الجديد اسمه الجميل، وحمله صلى الله عليه وسلم بين يديه وقبله, وهذا أبو رافع يخبرنا عن ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذني الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة( ).
وحدثنا أبو رافع عن عقيقة الحسن فقال: لما ولدت فاطمة حسنًا قالت: ألا أعق عن ابني بدم (بكبشين؟) قال صلى الله عليه وسلم: «لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين والأوفاض» وكان الأوفاض ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجين في المسجد أو الصفة، ففعلت ذلك( ).
وأحب صلى الله عليه وسلم أن يقدم عقيقة الحسن، فعق عنه كبشين( ).
وقد قال صلى الله عليه وسلم في العقيقة: «كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى» ( ).
رابعًا: زيد بن ثابت يتعلم لغة اليهود سنة 4هـ:
وفي هذه السنة تعلم زيد بن ثابت كتابة اليهود، فعن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتابة يهود ليقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتبوا إليه( ), فتعلمه في خمسة عشر يومًا، وفي رواية أخرى أن رسول الله لما قدم المدينة ذ ُهب بزيد إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب» قال زيد: فتعلمت له كتابهم, ما مرت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب( ).
وبهذا الخبر يتضح أن للترجمان مكانة رفيعة في الدولة، إذ هو الذي يطلع على أسرار الدولة وما يأتيها من مراسلات، أو ما ترسله من مخاطبات، إذ لا يصح أن يطلع كل إنسان على تلك الكتب الصادرة والواردة لئلا تختل الدولة وتكشف أسرارها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود( ), وتعلم زيد بن ثابت لغة يهود في خمس عشرة يوما يدل على ذكاء مفرط، وقوة حافظة، وقد كان ممن حفظ القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر كتاب الوحي بين يديه، وهو الذي تولى كتابة القرآن وحده في الصحف في عهد الصديق، وكان أحد كاتبي المصاحف في عهد عثمان ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا بتعلم لغة اليهود وكتابتهم يدل على أن الإسلام يحبب إلى المسلم أن يتعلم لغة غيره وكتابتهم، ويتعرف على علومهم ومعارفهم ولا سيما إذا دعت لذلك ضرورة( ).
* * *
المبحث الثالث
إجلاء يهود بني النضير
أصاب يهود المدينة، الخوف والرعب، طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف، وبين معركة أحد التي جرت في شوال عام 3هـ، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة, وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلا وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم, ثم صمموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والغدر به( ).
أولاً: تاريخ الغزوة وأسبابها:
أ- تاريخ الغزوة:
يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أُحُدٍ والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية( ).
وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أُحُد( ). وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير( ).
ب- أسباب الغزوة:
هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي صلى الله عليه وسلم على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها:
1- نَقْض بني النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة.
وقد حصل ذلك في غزوة السويق( ) حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مائتي راكب قاصدًا المدينة قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك( ).
قال موسى بن عقبة صاحب المغازي: (كانت بنو النضير قد دسوا إلى قريش وحصونهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلوهم على العورة)( ).
2- محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرين اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ وذلك تنفيذا للعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر من عقود وأحلاف.
استقبل بنو النضير النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه صلى الله عليه وسلم، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل( ).
لم تكن مؤامرة بني النضير، التي أفشلها الله سبحانه وتعالى تستهدف شخص النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتها؛ لذا صمم محمد صلى الله عليه وسلم على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم( ).
هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غزوة بني النضير، وقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكر يهود بني النضير, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [المائدة: 11].
وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها:
أخرج الطبري عن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ليستعينهم في عقل أصحابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: «أعينوني في عقل أصابني» فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرون وجاء رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال لأصحابه: لا ترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا. فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاء جبريل عليه السلام فأقامه من ثم, فأنزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به( ).
وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد( ) أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك أن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار، واجتمعوا عنده أن يلقي الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تماروا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية( ).
وقد رجَّح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: (وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به ورسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود النضير همت به من قتله وقتل من معه, يوم سار إليهم في الدية التي تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا بالصحة في تأويل ذلك؛ لأن الله عقب ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها وقبيح فعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها)( ).
وقد وافق الدكتور محمد آل عابد ترجيح الطبري، وقال: لا مانع أن تكون الآية الكريمة نزلت بعد تلك الحوادث مجتمعة، فقد تعددت الحوادث والمنزل واحد، كما قال العلماء( ).
ومعنى الآية الكريمة: أي اذكروا نعمة الله عليكم، التي من أكبر مظاهرها كفه عنكم أيدي اليهود الذين هموا أن يمدوا أيديهم بالسوء إلى نبيكم، وشارفوا أن ينفذوا مؤامرتهم الخبيثة، ولكن الله أحبط مكرهم ونجى نبيكم صلى الله عليه وسلم من شرورهم. ثم أمر –سبحانه- بتقواه والتوكل عليه, فقال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).
أي اتقوا الله -أيها المؤمنون- في رعاية حقوق نعمته، ولا تخلوا بشكرها, فقد أراكم قدرته، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بكم، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون( ).
ثانيًا: إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم:
أ- إنذار بني النضير: سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إليهم، وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه»( )، ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس, فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، فقالوا: نتحمل, فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل( ). وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول من يقول لهم: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم( ), ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا, فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم( ). فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجع كبيرهم (حيي بن أخطب) وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جدي بن أخطب يقول له: إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّر المسلمون معه، وقال: «حاربت يهود» ( ).
ب- ضرب الحصار وإجلاؤهم: وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة. وأمر صلى الله عليه وسلم بحرق نخيلهم، وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم, وضعفت حماستهم للقتال، وجزعوا وتصايحوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله, فما بال قطع النخيل وتخريبها؟ وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبي وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا, فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم. فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة – وهي الدروع والسلاح- فرضوا بذلك»( ). ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لا ينتفع منها المسلمون. وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل( ). وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم, حتى لا يشمت بهم المسلمون, فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام( ).
وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة، بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها( ).
ثالثا: الدروس والعبر في هذه الغزوة:
تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- سورة الحشر بسورة بني النضير، ففي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر، قال: سورة بني النضير( ).
وقد بينت هذه السورة ملابسات هذه الغزوة، وفصلت القول فيها، وبينت أحكام الفيء, ومن هم المستحقون له؟ وأوضحت موقف المنافقين من اليهود، كما كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وفي أثناء الحديث عن الغزوة وجه سبحانه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بتقواه وحذرهم من معصيته، ثم تحدث سبحانه عن القرآن الكريم، وأسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى بالأحداث على التوحيد وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة. وبالتأمل في السورة يمكننا استخراج بعض الدروس والعبر من أهمها:
أ- الثناء على الله وتمجيده: ابتدأت السورة بالثناء على الله، وأن الكون كله بجميع ما فيه من مخلوقات من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، ينزه الله ويمجده ويشهد بوحدانيته وقدرته وجلاله, وناطق بعظمته وسلطانه( ). قال تعالى: ( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الحشر: 1].
كان استفتاح هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض، تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لعظمته؛ لأنه العزيز، الذي قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه عسير.
الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتض حكمته، ومن ذلك نصره لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم، التي ألفوها وأحبوها( ).
ب- الرعب جند من جند الله: قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [الحشر: 2-4].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يتبين له أن الله هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم إلى الشام، حيث أول الحشر في حين أن كل الأسباب المادية معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها.
لكن الله فاجأهم من حيث لم يحتسبوا, جاءهم من قلوبهم التي لم يتوقعوا أنهم يهزمون بها, فقذف فيها الرعب فإذا بهم يهدمون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا الأسلوب القرآني الفريد يربي الأمة بالأحداث والوقائع, وهو يختلف تماما عن طريقة أهل السير، ويمتاز بأنه يكشف الحقائق ويوضح الخفايا، ويربط الأحداث بفاعلها الحقيقي وهو رب العالمين، ومن ذلك أنها بينت أن الذي أخرج بني النضير هو الله جل جلاله: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ).
واستمرت الآية الكريمة تبين أن يهود بني النضير حسبوا كل شيء وأحاطوا بجميع الأسباب الأرضية، لكن جاءتهم الهزيمة من مكان اطمأنوا إليه وهو أنفسهم, فإذا الرعب يأتي من داخلهم، فإذا بهم ينهارون في أسرع لحظة، لذلك يجب على كل إنسان عاقل أن يعتبر بهذه الغزوة، وأن يعرف أن الله هو المتصرف في الأمور، وأنه لا تقف أمام قدرته العظيمة لا الأسباب ولا المسببات، فهو القادر على كل شيء، فعلى الناس أن يؤمنوا به تعالى ويصلحوا أمرهم، فإذا اتبعوا أمر الله أصلح الله لهم كل شيء، وأخرج أعداءهم من حيث لم يحتسبوا.
إن هذه الغزوة درسٌ للأمة في جميع عصورها تذكرهم أن طريق النصر قريب وهو الرجوع إلى الله والاعتماد عليه والتسليم لشريعته، وتقديره حق قدره، فإذا عرف ذلك المؤمنون نصرهم الله ولو كان عدوهم قويًا وكثيرًا, فإن الله لا يعجزه شيء، وأقرب شاهد واقعي لذلك هو إجلاء بني النضير, وهي عبرة فليُعتبر بها، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثم أوضح سبحانه أنه لو لم يعاقبهم بالجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل, أما في الآخرة فلهم عذاب النار( ).
ج- تخريب ممتلكات الأعداء: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه وحاصر بني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه, فما بال قطع النخل وتحريقها؟( ) فأنزل الله عز وجل: ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ )( ) وقد توسع الشيخ محمد أبو زهرة في شرح هذه الآية فقال ما ملخصه بعد أن ساق آراء الفقهاء في ذلك: والذي ننتهي إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه:
1- أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء؛ لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم وبذلك وردت الآثار.
2- أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين, فإنه لا مناص من قطع الأشجار وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف.
3- أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب, إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا( ).
د- تطوير السياسة المالية للدولة الإسلامية: بيَّن سبحانه وتعالى حكم الأموال التي أخذها المسلمون من بني النضير بعد أن تم إجلاؤهم, فقال تعالى: ( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الحشر: 6].
وبيَّن سبحانه وتعالى أن الأموال التي عادت إلى المسلمين من بني النضير قد تفضل بها عليهم بدون قتال شديد؛ وذلك لأن المسلمين مشوا إلى أعدائهم ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً وافتتحها صلى الله عليه وسلم صلحًا، وأجلاهم، وأخذ أموالهم ووضعها حيث أمره الله، فقد كانت أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله( ).
ثم بيَّن المولى عز وجل أحكام الفيء في قرى الكفار عامة, فقال تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر: 8].
فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا تصرف فيه -أي الفيء- كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات.
ولما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال: «ادع لي قومك»، قال ثابت: الخزرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كلها» فدعا له الأوس والخزرج.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم».
فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله، بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا, وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله( ).
وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا، غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما( )، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الفيء كان خاصًّا له إلا أنه جمع الأنصار وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم, وهذا من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور. وكانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج( ).
إن قسمة أموال بني النضير أوجدت تطورًا كبيرًا في السياسة المالية للدولة الإسلامية, فقد كانت الغنائم الحربية قبل هذه الغزوة تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدولة الإسلامية خمسها لتصرف في مصارف معينة حددها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النضير، أصبحت هناك سياسة مالية جديدة فيما يتعلق بالغنائم، وخلاصتها: أن الغنائم الحربية أصبحت حسب السياسة الجديدة على نوعين:
1- غنائم استولى عليها المجاهدون بحد سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدولة خمسها لتصرفه في مصارفه الخاصة.
2- غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتال، وهذا النوع يختص رئيس الدولة الإسلامية بالتصرف فيه حسب ما يرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحًا، أو يبني به مدينة أو يصلح به طرقا أو… وهذا يعني أنه قد أصبح لرئيس الدولة الإسلامية ميزانية خاصة يتصرف فيها تصرفًا سريعًا حسب مقتضيات المصلحة( )، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسًا دون آخرين العلة في ذلك في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [الحشر: 7]. أي لكي لا يكون تداول المال محصورًا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط, والتعليل لهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ، وأن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبغي من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات, لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش قد يتفاوتون في الرزق، ولكنهم جميعًا مكتفون وليس فيهم كَلٌّ على آخر، وإن كانوا جميعًا يتعاونون( ). وبعد بيان العلة في توزيع أموال الفيء عقب سبحانه بأمر المسلمين بأن يأخذوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، وأن هذا من لوازم الإيمان، وأمرهم بالتقوى، فإن عقابه شديد وأليم للعصاة. قال تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [الحشر: 7]. أي: ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد. وقوله: ( وَاتَّقُوا اللهَ ) خافوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقوله: ( إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) أي فإن عقابه أليم وعذابه شديد لمن عصاه وخالف ما أمره به، قال المفسرون: والآية وإن نزلت في أموال الفيء إلا أنها عامة في كل ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجب, أو مندوب، أو مستحب, أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره( ). وقد جاءت آيات كثيرة تربي الأمة على وجوب الانقياد لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك في كل الأمور, قال تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء: 65].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم, فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم, واختلافهم على أنبيائهم»( ).
هـ- فضل المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:
1- فضل المهاجرين: بينت الآيات الكريمة في سورة الحشر فضل المهاجرين على غيرهم، فهم لهم الدرجة الأولى، فقد اشتملت الآيات على أوصافهم الجميلة, وشهد الله لهم بالصدق, قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر: 8].
2- فضل الأنصار: فقد وضحت الآيات فضل الأنصار، وقد وصفهم الله بهذه الصفات, قال تعالى: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر: 9].
3- فضل التابعين لهم بإحسان: وهم المتتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون في السر والعلانية لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان( ), قال تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [الحشر: 10]. وهكذا تحدثت السورة الكريمة عن صور مشرقة للمهاجرين، والأنصار, والتابعين لهم بإحسان.
و- موقف المنافقين في المدينة: بينت الآيات الكريمة حالة المنافقين، ووضحت موقفهم وتحالفهم مع إخوانهم من اليهود، وكشفت أيضا موقفهم من المسلمين، وموقف اليهود ونفسياتهم( ), قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) [الحشر: 11].
يخبرنا المولى عز وجل عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم بمناصرتهم، وقوله: ( لإِخْوَانِهِمُ ) أي الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر, وهم يهود بني النضير، وجعلهم إخوانًا له لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر.
ز- تحريم الخمر: حرمت الخمر ليالي حصار بني النضير( ) في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة( )، وقد خضع تحريم الخمر لسنة التدرج، وكان ذلك التحريم على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي, حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة، وفي ختامها ( فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ ) [المائدة: 91] قال المؤمنون في قوة وتصميم: قد انتهينا يا رب( ).وفي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) [البقرة: 219].
يقول سيد قطب رحمه الله: وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم, فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرًّا خالصًا, فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامية القرآنية الربانية الحكيمة, وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر, عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسمًا منذ اللحظة الأولى. ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعبادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعة التي تيسر التنفيذ والطاعة, فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق؛ لأن المسألة هنا مسألة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
فأما الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وألفة، والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني المنطقي التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع, وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) [النساء: 43]. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة، وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترة حد العادة، أمكن التغلب عليها، حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الجازم الأخير لتحريم الخمر والميسر( ). ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ ) [المائدة: 91].
ح- لا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله: كان مكر اليهود، وتآمرهم على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية في غاية الخسة والوضاعة، وكانوا يريدون من مكرهم وغدرهم عزة ورفعة ومجدًا، وغلبة, لكن الله سخر منهم، ونجى رسوله والمسلمين من مكرهم وأذلهم وأخزاهم، فزال مجدهم، وكسر غلبتهم، وخرب بيوتهم، ورحلهم عن ديارهم، ولم يكلف ذلك المسلمين اصطدامًا مسلحًا، ولا قتالاً ضاريًا، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب والفزع, فطلبوا النجاة بأرواحهم في ذلة وخزي، مخلفين وراءهم ثروة وملكًا، حازه المسلمون غنيمة باردة, وقد قال تعالى في شأنهم: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) [الحشر: 2].
هذه عاقبة المكر السيئ، والغدر المشين، وانظر بعد ذلك كيف أشار القرآن الكريم إلى مواطن العبرة في هذه الموقعة، وإلى هذا التهديد الذي أعلنه لكل من يسلك سبيل المكر المزري، والحقد المستبد( ) وقال: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) [الحشر: 2].
ويظهر لي من الآية الكريمة الاعتبار من وجوه:
1- إن الذي يقف في وجه الحق، ويصد الناس عنه، ويطارد دعاة الحق
منهزم لا محالة، قال تعالى: ( قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ).
2- الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف وباق حتى يرث الله الأرض وما عليها، وستكون للباطل جولات وللحق جولات, ولكن العاقبة لأهل الحق في نهاية المطاف.
3- الاعتبار يكون بتجنب ما ارتكبه اليهود من خيانة وغدر حتى لا يحدث نفس المصير الذي حدث لهم من الهزيمة والذل والهوان( ).
طـ- لا إكراه في الدين: كان في بني النضير أناس من أبناء الأنصار قد تهودوا بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود, فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم. فأنزل الله عز وجل: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة: 256].
روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة( ) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّدَه، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله عز وجل: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) [البقرة: 256] ( ).
* * *
المبحث الرابع
غزوة ذات الرقـــــــــاع
أولاً: تاريخها وأسبابها, ولماذا سميت بذات الرقاع؟:
اختلف أهل المغازي والسير في تاريخ هذه الغزوة، وقد ذهب البخاري( ) إلى أنها كانت بعد خيبر، وذهب ابن إسحاق( ) إلى أنها بعد غزوة بني النضير، وقيل بعد الخندق سنة أربع، وعند الواقدي( ) وابن سعد( ) أنها كانت في المحرم سنة خمس.
وقد ذكر البوطي بأن تاريخ الغزوة كان في السنة الرابعة للهجرة بعد مرور شهر ونصف تقريبًا على إجلاء بني النضير، وقال بأن هذا الرأي ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي( ), وإليه ذهبت.
وأما سبب الغزوة ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى, فخرج صلى الله عليه وسلم قاصدًا قبائل محارب وبني ثعلبة( ). وقد ذكر الدكتور محمد أبو فارس أن قادمًا قدم المدينة فأخبر المسلمين أن بني محارب وبني ثعلبة من غطفان قد جمعوا الجموع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن سار إليهم في عقر دارهم على رأس أربعمائة مقاتل وقيل سبعمائة مقاتل، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم خافوا وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم وأطفالهم وأموالهم، وحضرت الصلاة فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وعاد رسول الله إلى المدينة( ).
وقد حققت هذه الحملة العسكرية أغراضها, وتمكنت من تشتيت الحشد الذي قامت به غطفان لغزو المدينة فأرهب تلك القبائل وألقى عليها درسًا بأن المسلمين ليسوا قادرين فقط على سحق من تحدثه نفسه بالاقتراب من المدينة, بل قادرين على نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه وضربه في عقر داره( ).
وسميت بذات الرقاع؛ لأنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق والرقاع اتقاء الحر، وقيل: لأنهم رقعوا راياتهم, وقيل لشجرة كانت اسمها ذات الرقاع( ), وقيل: لأن المسلمين نزلوا في أرض كان فيها بقع بيض وسود مختلفة، فسميت لذلك( ). والصحيح: أنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق، فقد روى الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نَلُفُّ على أرجلنا الخرق, فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب بالخرق على أرجلنا( ).
ثانيًا: صلاة الخوف وحراسة الثغور:
1- صلاة الخوف: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في هذه الغزوة, وبيَّن القرآن الكريم صفة الصلاة ساعة مواجهة العدو قال تعالى: ( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنْتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) [النساء: 102]. فقد صلى المسلمون صلاة الخوف، وصفة هذه الصلاة أن طائفة صفت معه، وطائفة في وجه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت في صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم( ).
وفي رواية: أنه صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا, وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان( ). قال الدكتور البوطي: ووجه التوفيق بين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرة فصلاها مرة على النحو الأول, وصلاها مرة أخرى على النحو التالي.
وكانت هذه الصلاة بمنطقة نخل التي تبعد عن المدينة بيومين( ), ودل تشريع صلاة الخوف على أهمية الصلاة فحتى في قلب المعركة لا يمكن التساهل فيها، ولا يمكن التنازل عنها، مهما كانت الظروف؛ وبذلك تندمج الصلاة والعبادة بالجهاد وفق المنهاج النبوي في تربية الأمة الذي استمد من كتاب الله تعالى، فلا يوجد أي انفصال أو انفصام بين العبادة والجهاد( ).
2- حراسة الثغور: عندما رجع الجيش الإسلامي من غزوة ذات الرقاع سبوا امرأة من المشركين, فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فجاء ليلاً وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين على الحراسة أثناء نومهم، وهما عباد بن بشر، وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا بسهم وهو قائم يصلي فنزعه، ولم يقطع صلاته، حتى رشقه بثلاثة سهام، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحانه الله، هل نبهتني؟ فقال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك, وايمُ الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها( ). ومن هذه الحادثة يمكننا أن نستخلص دروسًا وعبرًا منها:
أ- اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمن الجنود, ويظهر ذلك في اختياره رجلين من خيار الصحابة لحراسة الجيش ليلاً.
ب- تقسيم الحراسة، ونلاحظ أن الرجلين اللذين أنيطت بهما حراسة الجيش قد اقتسما الليل نصفين، نصفًا للراحة ونصفًا للحراسة، إذ لا بد من راحة جسم الجندي بعض الوقت.
ج- التعلق بالقرآن الكريم وحب تلاوته: فقد كان حبه للتلاوة قد أنساه آلام السهام التي كانت تنغرس في جسمه وتثج الدم منه بغزارة( ).
د- الشعور بمسئولية الحراسة: فلم يقطع عباد صلاته لألم يشعر به وإنما قطعها استشعارًا بمسئولية الحراسة التي كلف بها، وهذا درس بليغ في مفهوم العبادة والجهاد( ).
هـ- مكان الحراسة استراتيجي: اختار النبي صلى الله عليه وسلم فم الشعب مكان إقامة الحرس، وكان هذا الاختيار في غاية التوفيق؛ لأنه المكان الذي يتوقع العدو منه لمهاجمة المعسكر.
و- قرب مهجع الحرس من الحارس: ولذلك استطاع الحارس أن يوقظ أخاه النائم، ولو كان المهجع بعيدًا عن الحارس لما تمكن من إيقاظ أخيه، وبالتالي يحدث ما لا تحمد عقباه( ).
ثالثا: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لجابر بن عبد الله:
1- شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
عندما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أدركته القائلة في وادٍ كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة علق بها سيفه، قال جابر بن عبد الله: (فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله» فها هو ذا جالس، لم يعاقبه رسول الله, واسم الأعرابي: غورث بن الحارث)( ). وقد عاهد غورث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يقاتله، ولا يكون مع قوم يقاتلونه، فخلى سبيله، فجاء إلى أصحابه فقال: (جئتكم من عند خير الناس)( ).
وفي هذه القصة دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفرط شجاعته وقوة يقينه وصبره على الأذى وحِلْمه على الجهال، وفيها جواز تفرق العسكر في النزول ونومهم إذا لم يكن هناك ما يخافون منه( ).
إن هذه القصة ثابتة وصحيحة وهي تكشف عن مدى رعاية الباري جل جلاله وحفظه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم هي تزيدك يقينًا بالخوارق التي أخضعها الله جل جلاله له عليه الصلاة والسلام, مما يزيدك تبصرًا ويقينًا بشخصيته النبوية، فقد كان من السهل الطبيعي بالنسبة لذلك المشرك، وقد أخذ السيف ورفعه فوق النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعزل غارق في غفلة النوم، أن يهوي به عليه فيقتله، وإنك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتداد بنفسه والزهو بالفرصة الذهبية التي أمكنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: من يمنعك مني؟ فما الذي طرأ بعد ذلك حتى عاقه عن القتل؟( ).
ليس لهذا تفسير إلا العناية الإلهية، والإعجاز الإلهي، الذي يتخطى العادات والسنن، ويتجاوز قوى الناس، لنصرة نبيه، والذود عن دعوته( ). فقد كانت العناية الإلهية كافية لأن تملأ قلب المشرك بالرعب وأن تقذف في ساعديه تيارًا من الرجفة، فيسقط من يده السيف ثم يجلس متأدبًا مطرقًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما حدث مصداق لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [المائدة: 67], فليست العصمة المقصودة في الآية أن لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك هي سنة الله في عباده كما قد علمت, وإنما المراد من العصمة ألا تطول إليه أي يد تحاول اغتياله وقتله لتغتال فيه الدعوة الإسلامية التي بعث لتبليغها( ).
2- معاملته صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله:
قال جابر بن عبد الله : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف, فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قال: قلت: يا رسول الله أبطأني جملي هذا، قال: «أنخه» فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة» قال: ففعلت، قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت، فخرج -والذي بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة (أي يسابقها ويعارضها في المشي لسرعته).
في هذه القصة صورة جميلة ورفيعة لخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من حيث لطف الحديث، والتواضع الرفيع، الوقوف على أحواله ، فقد شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن سبب تأخر جابر عن الركب هو ضعف جمله الذي لا يملك غيره لبؤس حاله، حيث إن والده مات شهيدًا في أحد وترك له مجموعة من البنات والأولاد ليرعاهم، وهو مقل في الرزق.
* * *
المبحث الخامس
غزوة بدر الموعد، ودومة الجندل
أولاً: غزوة بدر الموعد:
تنفيذًا للموعد الذي كان أبو سفيان قد اقترحه في أعقاب معركة أحد، والتزام الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة على رأس جيش من أصحابه قوامه ألف وخمسمائة مقاتل بينهم عشرة من الخيالة، وذلك في ذي القعدة سنة 4 هـ، وحمل لواء الجيش علي بن أبي طالب , فوصلوا بدرًا فأقاموا فيها ثمانية أيام بانتظار وصول قوات المشركين من قريش بقيادة أبي سفيان بحسب الموعد بين الطرفين، غير أن أحدًا من المشركين لم يصل إلى بدر، وكان أبو سفيان قد جمع قوات قريش وحلفائها التي تألفت من ألفي مقاتل معهم خمسون فرسًا، فلما وصلوا إلى مر الظهران، نزلوا على مياه مجنة على بعد أربعين ميلا من مكة ثم عاد بهم أبو سفيان إلى مكة( ) بعد أن خطب فيهم وقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا( )، وأقبل مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني ضمرة في غزوة ودان، فالتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة( ).
ففي هذا اللقاء أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى كبير في إظهار قوة المسلمين، وأن العقد الذي كان بين الفريقين يستمر بعامل قوة المسلمين لا بعامل ضعفهم, وبناء على طلب الطرف الثاني, وفي هذا ما فيه من القوة للمسلمين وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم( ). لقد كانت تحركات الجيش الإسلامي من المدينة حتى بدر مناورة رائعة ناجحة أثبت بها وجوده, وأعطى الدليل القاطع لأعداء الإسلام داخل المدينة وخارجها، أنه أصبح أقوى قوة مرهوبة في الجزيرة العربية كلها، ولا أدل على ذلك من أن جيش مكة وهو من أعظم الجيوش في الجزيرة من حيث كثرة العدد وقوة التنظيم وجودة التسلح قد هاب الجيش الإسلامي ونكل عن حربه بعد أن خرج للقائه بموجب ميعاد سابق حدده (في أحد) قائد عام جيش مكة( ).
إن الحملة الإعلامية التي قام بها المشركون لإثبات انتصارهم في أحد وتفوقهم الحربي قد انتكست على رؤوسهم, وأصبحوا مثار السخرية عند العرب، وثبت للناس أن ارتباك المسلمين للمفاجأة في أحد وسقوط القتلى منهم لا يعني انهزامهم ولا ضعفهم العسكري( ), فقد ساهمت هذه الغزوة في المحافظة على السمعة العسكرية للمسلمين( ), وكسبوا انتصارًا معنويًا عظيمًا على أعدائهم بدون قتال، وشاركوا في الموسم التجاري ببدر وربحوا في تجارتهم ربحًا طيبًا( ).
لقد كان لإخلاف قريش الموعد أثر في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم( ).
ثانيًا: دومة الجندل:
كانت غزوة دومة الجندل من ضمن حركة تثبيت أركان الدولة الإسلامية, فبعد غزوة بدر الموعد، تحركت القوات الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قضاعة التي كانت تنزل شمال قبائل أسد وغطفان، وفي حدود الغساسنة الموالين للدولة الرومية (بيزنطة) ولها إشراف على سوق (دومة الجندل) الشهير (على بعد 450 كيلومترًا شمال المدينة), كانت هذه القبيلة أول من احتك بها المسلمون فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة المعروفة بغزوة دومة الجندل (ربيع الأول 5هـ/ أغسطس 626م)( ) فقد وصلت الأنباء إلى المدينة بتجمع بعض القبائل عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم، والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم، كما وردت الأنباء بأنهم يفكرون في القرب من المدينة لعجم عودها( ).
إن دومة الجندل تعتبر بلادًا نائية بالنسبة للمدينة المنورة؛ لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وهي على مسيرة ست عشرة ليلة من المدينة، ولو أن المسلمين أغفلوا أمرها، وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها ما لامهم أحد ولا ضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب, ولكن النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة أوجبت على المسلمين أن يتحركوا لفض هذا التجمع( ) والقضاء عليه قبل أن يستفحل شأنه للأسباب الآتية، وكذلك بغية تحقيق بعض الأهداف:
1- لأن السكوت على هذا التجمع وما شاكله يؤدي بلا شك إلى تطوره واستفحاله، ثم يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده.
2- وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الاقتصادي للمسلمين، فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب, مما يضعف الاقتصاد، ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب.
3- وهناك أمر أهم من الأمرين السابقين وهو فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها، وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسئوليتهم، لذلك فهم يؤمنون لهم الطرق، ويحمون لهم تجارتهم, ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر( ).
4- حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية الهامة؛ لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية, ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها( ).
5- الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عمليًا للمسلمين بأن رسالتهم عالمية( ) وليست مقصورة على العرب. ورأى بعض المؤرخين كالذهبي، والواقدي، ومحمد أحمد باشميل، وغيرهم أن من أهداف تلك الغزوة إرهاب الروم الذين تقع المنطقة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم بجيشه على حدودهم وعلى مسافة خمس ليالٍ من عاصمة ملكهم الثانية دمشق( ). لهذا ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج وخرج في ألف من أصحابه, وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى يخفي مسيره( ), ولا تشيع أخباره وتنقل أسراره، وتتعقبه عيون الأعداء( ).
واتخذ له دليلاً من بني عذرة يسمى (مذكورًا)، وسار حتى دنا من القوم, عندئذ تفرقوا، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدًا فقد ولوا مدبرين، وتركوا نعمهم وماشيتهم غنيمة باردة للمسلمين, وأسر المسلمون رجلا منهم، وأحضروه إلى الرسول فسأله عنهم، فقال: هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم وأقام بساحتهم أيامًا، وبعث البعوث، وبث السرايا, وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحد, وعاد المسلمون إلى المدينة، وفي أثناء عودتهم وادع الرسول عيينة بن حصن الفزاري واستأذن عيينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلا منها.
إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا، أي ما يقرب من خمسة وستين كيلومترًا، لدليل قاطع على ما وصلت إليه قوة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسئولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأَن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وإن الدولة أصبحت منيعة، ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف فتى( ).
كانت غزوة دومة الجندل بعيدة عن المدينة من جهة الشام، إذ بينها وبين دمشق ما لا يزيد عن خمس ليالٍ، وقد كانت بمثابة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية، وأحسوا بقوة الإسلام وسطوته, كما كانت لقيصر وجنده، كما أن سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة قد كان فيه تدريب له على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يعهدها من قبل, ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وأفريقيا فيما بعد( ).
كان خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ترمي إلى أهداف عديدة، فهي غزوة، وحرب استطلاعية تمسح الجزيرة العربية، وتتعرف على مراكز القوى فيها، وهي حرب إعلامية تأتي على أعقاب بدر الموعد، وتستثمر انتصاراتها، وهي حرب عسكرية تريد أن تصد هجومًا محتملاً على المسلمين حيث ضوى إليها قوم من العرب كثير يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حرب سياسية تريد أن تجهض من تحركات القبائل المحتمل أن تتحرك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة وتسبيحها( ).
كانت هذه الغزوة دورة تربوية رائعة وقاسية وشاملة يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه ألف من أصحابه، فيتلقون فيها كل لحظة دروسًا في الطاعة والانضباط، ودروسًا في التدريب الجسمي والعسكري والتحمل لمشاق الحياة وصعوباتها، وأحكامًا وفقهًا في الحلال والحرام، وعمليات صهر وتذويب لقواعد الجيش الإسلامي في بوتقة واحدة خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة، حيث أخذت تفد إلى المدينة عناصر كثيرة من أبناء القبائل المجاورة، والتخلي عن الأطر القبلية وعصاباتها للانصهار في بوتقة الأمة الواحدة التي تجعل الولاء لله ورسوله, وفوق هذا كله تتيح الفرصة لجيل بدر الرائد أن يقوم بمهمة التربية للوافدين الجدد وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النفوس، ومن له صلة بمعسكر النفاق من خلال مراقبة تصرفاته وسلوكه، إنها ليست ساعات محدودة أو أيامًا معدودة, بل هي دورة قرابة شهر، لا يمكن إلا أن تبرز فيها كل الطبائع وكل النوازع، فيتلقاها عليه الصلاة والسلام ليصوغها على ضوء الإسلام ويعلم الجيل الرائد فن القيادة وعظمة السياسة.
كانت معركة صامتة، وتربية هادئة، وكان الجيش مع قائده يقطع ما ينوف عن ألف ميل في هذه الصحراء، يتربى ويتثقف ويتدرب ويمتحن ويقوم, ليكون هذا استعدادًا لمعارك قادمة( ). وفي غيابه في غزوة دومة الجندل عين صلى الله عليه وسلم سباع بن عرفطة الغفاري واليًا على المدينة في تجربة جديدة، فهو ليس أوسيًّا ولا خزرجيًّا ولا قرشيًا, بل من غفار التي كانت تعتبر من سراق الحجيج عند العرب، فلا بد لهذا الجيل أن يتربى على الطاعة والانضباط للأمير أيا كان شأن هذا الأمير، وهذا يدل على عظمة المنهج النبوي في تربية الأمة والارتقاء بها, وعلى عظمة قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وفراسته في أتباعه وثقته فيهم ومعرفته لمواهبهم، فهو صلى الله عليه وسلم على معرفة بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاري وعبقريته وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه وهو غائب عن المدينة لكي يهيمن منهج رب العالمين على المسلمين, ويصنع منها أمة واحدة تسمع وتطيع لكتاب ربها وسنة نبيها( ).
* * ¬*
المبحث السادس
غــــزوة بني المصطلــــق
أولاً: من هم بنو المصطلق؟ ومتى وقعت الغزوة وأسبابها؟:
1- بنو المصطلق: هم بطن( ) من خزاعة, والمصطلق( ) جدهم, وهو جذيمة بن سعد ابن عمرو بن ربيعة ابن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء( ).
2- تاريخ الغزوة: اختلف العلماء في ذلك, وانحصرت أقوالهم فيها في ثلاثة أقوال، فمن قائل إنها في شعبان سنة ست، قال بذلك ابن إسحاق وخليفة بن خياط، وابن جرير الطبري. ومن قال بأنها في شعبان من العام الرابع للهجرة، مثل المسعودي.
وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة، منهم موسى بن عقبة، وابن سعد، وابن قتيبة، والبلاذري، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير -رحمهم الله- ومن المحدثين الخضري بك، والغزالي، والبوطي.
وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح, فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها( ).
3- أسباب هذه الغزوة: من أهم الأسباب لهذه الغزوة:
أ- تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين، ضمن كتلة الأحابيش التي اشتركت في المعركة تأييدًا لقريش.
ب- سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة( ).
ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة( ).
4- أحداث غزوة بني المصطلق: عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحركة بني المصطلق المريبة أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في سبعمائة مقاتل( ), وثلاثين فارسًا( ), متوجهًا إلى بني المصطلق، ولما كان بنو المصطلق ممن بلغتهم دعوة الإسلام، واشتركوا مع الكفار في غزوة أحد، وكانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فقد روى البخاري( ) ومسلم( ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون -أي غافلون- وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث( ).
ثانيا: زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وكان من بين الأسرى جويرية بنت الحارث، وكانت بركة على قومها, ولنسمع قصتها من السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها.
قالت: فوالله ما هو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلتْ عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو -لابن عم له- فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: «فهل لك في خير من ذلك؟».
قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابك وأتزوجك». قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها( ). وجاء الحارث بن أبي ضرار بعد الوقعة، بفداء ابنته, إلى المدينة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم( ).
تعتبر غزوة المريسيع من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها، وكان الحدث الذي أسلمت القبيلة من أجله هو أن الصحابة حرروا وردوا الأسرى الذين أصابوهم إلى ذويهم بعد أن تملكوهم باليمين في قسم الغنائم، واستكثروا على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم عليه الصلاة والسلام، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله.
إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم, وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم، وكذلك يؤتي الحب النبوي هذه الثمار الطيبة، ويصنع هذه المآثر الفريدة في التاريخ.
لقد كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث له أبعاده، وتحققت تلك الأبعاد بإسلام قومها، فقد كان الزواج منها من أهدافه الطمع في إسلام قومها، وبذلك يكثر سواد المسلمين، ويعز الإسلام، وهذه مصلحة إسلامية بعيدة, يسر الله هذا الزواج، وباركه، وحقق الأمل البعيد المنشود من ورائه، فأسلمت القبيلة كلها بإسلام جويرية، وإسلام أبيها الحارث، فقد عاد هذا الزواج على المسلمين بالبركة والقوة، والدعم المادي والأدبي معًا للإسلام والمسلمين( ).
أصبحت جويرية بنت الحارث زوجة لسيد المرسلين وأمًّا للمؤمنين، فكانت رضي الله عنها عالمة بما تسمع، وعاملة بما تعلم، فقيهة عابدة، تقية ورعة، نقية الفؤاد, مضيئة العقل، مشرقة الروح، تحب الله ورسوله، وتحب الخير للمسلمين.
وكانت رضي الله عنها تروي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناقلة لحقائق الدين من خزائنها عند من تنزلت عليه صلى الله عليه وسلم، يرويه عنها سدنة العلم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، لينشروه في المجتمع المسلم علمًا وعملاً، وفي عامة المجتمع الإنساني دعوة وهداية( ). فقد حدَّث عنها ابن عباس، وعبيد بن السباق، وكريب مولى ابن عباس ومجاهد، وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدي. بلغ مسندها في كتاب بقي بن مخلد سبعة أحاديث( ), منها أربعة في الكتب الستة، عند البخاري حديث، وعند مسلم حديثان، وقد تضمنت مروياتها أحاديث في الصوم في عدم تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وحديث في الدعوات في ثواب التسبيح، وفي الزكاة في إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة، كما روت في العتق، وبسبعة أحاديث شريفة خلدت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها اسمها في عالم الرواية، لتضيف إلى شرف صحبتها للنبي صلى الله عليه وسلم وأمومتها للمسلمين، تبليغها الأمة سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما تيسر لها ذلك( ).
وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات والقانتات الصابرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه( ), فهذه أم المؤمنين جويرية تحدثنا عن ذلك فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها( ), ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته»( ).
وقد توفيت رضي الله عنها سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين( ).
ثالثًا: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار:
خرج في غزوة بني المصطلق عدد كبير من المنافقين مع المسلمين، وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، لكنهم لما رأوا اطراد النصر للمسلمين خرجوا طمعًا في الغنيمة( ). وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصرًا جديدًا ازدادوا غيظًا على غيظهم, وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته, فشنوا حربًا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها، ولنترك الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك( ), قال: (كنت في غزاة( ) فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي( ), فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه, فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: ( إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) [المنافقين: 1] فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد»( ).
ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: (كنا في غزاة فكسع( ) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟».
قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»( ).
وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا، ولكن أذن بالرحيل»، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس( ).
وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو بلغك ما قال صاحبكم؟». قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي؟» قال: وما قال؟ قال: «زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل». قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه, فإنه يرى أنك استلبت ملكه. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا.
وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه( ). إن هذه الحادثة من السيرة النبوية العطرة مليئة بالدروس والعبر، فمن أهم تلك الدروس:
1- الحفاظ على السمعة السياسية ووحدة الصف الداخلية:
وهذا الدرس يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟( ).
إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، والفرق كبير جدًّا بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمدٍ محمدًا، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا( )، وبين أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو، بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات( ).
ولم يقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفًا سلبيًّا حيال تلك المؤامرة التي تزعمها ابن سلول لتصديع الصف المسلم، وإحياء نعرات الجاهلية في وسطه, بل اتخذ إزاءها الخطوة الإيجابية التالية:
أ- سار رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما( ).
وبهذا التصرف البالغ الغاية في السياسة الرشيدة قضى على الفتنة قضاء مبرمًا، ولم يدع مجالا للحديث فيما قال ابن أبي.
ب- لم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن سلول ومؤامراته المدبرة بالقوة واستعمال السلاح حرصًا على وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي أتباعًا وشيعة مسلمين مغرورين، ولو فتك به لأرعدت له أنوف، وغضب له رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام، وإنها لسياسة شرعية حكيمة رشيدة في معالجة المواقف العصبية في حزم وقوة أعصاب وبُعد نظر( ). وهذه البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور متفرعة عن كونه صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً إلى الناس( ) لكي تقتدي به الأمة في تصرفاته العظيمة.
وقد كان لتسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان ابن أبي ابن سلول كلما أحدث حدثًا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، ويعرضون قتله على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلتَ لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم لقتلته» فقال عمر: قد –والله- علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري( ).
2- (بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا):
كان لابن أبي ابن سلول ولد مؤمن مخلص يسمى عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما علم بالأحداث ونزول السورة، أتى رسول الله فقال له: (يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي ابن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» ( ). ولما وصل المسلمون مشارف المدينة تصدى عبد الله لأبيه عبد الله بن أبي، وقال له: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له( ).
3- مثل أعلى في الإيمان:
جسَّده عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول في موقفه من والده، وتقديمه وإخلاصه لله ولرسوله، وتقديم محبتهما ومراضيهما على محبة ومراضي الأبوة( ). لقد ضرب الابن أروع مثل في الإيمان والتضحية بعاطفة الأبوة، فقابله صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الكبير والخلق العظيم بمثل رفيع في العفو والرحمة وحسن الصحبة «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» يا لروعة العفو، ويا لجلال العظمة النبوية( ), فقد تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي الجليل، وهدَّأ من روعه، وأذهب هواجسه( ).
4- محاربة العصبية الجاهلية:
إن العصبية الممقوتة والتي نصفها بالجاهلية غير مقصورة على العصبية القبلية أي الاشتراك في النسب الواحد، نسب القبيلة التي ينتمون إليها, وإنما الاشتراك في معنى أو وصف معين يجعل المشتركين فيه يتعاونون ويتناصرون فيما بينهم بالحق وبالباطل، ويكون ولاؤهم فيما بينهم على أساس هذا المعنى أو الوصف المشترك، فعندما كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال الأنصاري: يا للأنصار, وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة»( ), ووجه الدلالة بهذا الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر هذه المناداة لما تشعره من معنى العصبية، مع أن المنادي استعمل اسمًا استعمله القرآن وهو (المهاجرين) (والأنصار). فالمهاجري استنصر بالمهاجرين مع أنه هو الذي كسع، فكأنه بندائه هذا يريد عونهم، لاشتراكه وإياهم بمعنى واحد وهو (المهاجرة)، وكذلك الأنصاري استنصر بالأنصار؛ لأنه منهم ويشترك وإياهم بوصف واحد ومعنى واحد وهو مدلول كلمة (الأنصار), وكان حق الاثنين -إذا كان لا بد من الاستنصار بالغير- أن يكون الاستنصار بالمسلمين جميعًا، وعلى هذا فالمطلوب من الدعاة التأكيد على نبذ العصبية بجميع أنواعها سواء كانت عصبية تقوم على أساس الاشتراك بالقبيلة الواحدة، أو على أي أساس آخر، من بلد, أو مذهب، أو حزب، أو عرق، أو لون، أو دم، أو جنس، وأن يكون الولاء والتناصر على أساس الاشتراك بالأخوة الإسلامية التي أقامها وأثبتها واعتبرها الله تعالى بين المسلمين بقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [الحجرات: 10]. وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصرًا على الحق لا على الباطل بمعنى أن ينصروا المحق، وأن يكونوا معه, لا مع المعتدي( ).
لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن العصبيات هي من دعاوى الجاهلية، وقال: «لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره» ( ) فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف وأبطل المفهوم الجاهلي: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا( ).
إن مهمة الدعاة وطلاب العلم والعلماء والفقهاء في التخلص من العصبية، ودعوة المسلمين إلى نبذها, كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، ولأهميتها الكبيرة علينا أن نبذل ما في وسعنا لقلعها من النفوس( ).
رابعًا: توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي في أعقاب غزوة بني المصطلق:
نزلت سورة (المنافقون) في أعقاب غزوة بني المصطلق، حيث كان المسلمون راجعين إلى المدينة, وذلك بدليل رواية الإمام الترمذي (فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون)( ). فقد تحدثت السورة بإسهاب عن المنافقين، وأشارت إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم وفضحت أكاذيبهم، إلا أنها في الختام حذرت المؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا ومتاعها، وحثت على الإنفاق, ويمكن لدارس هذه السورة أن يلاحظ عدة محاور مهمة منها:
1- تحدثت السورة الكريمة في البدء عن أخلاق المنافقين، وفضحت كذبهم في أقوالهم ووصفت حالهم( )؛ فابتدأت هذه السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الإيمان الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين, وصدهم الناس عن دين الله( ), قال تعالى: ( إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) [المنافقون: 1-4].
2- ثم بينت الآيات عنادهم وتصميمهم على الباطل، وعصيانهم لمن يدعوهم إلى الحق وبينت مقالاتهم الشنيعة بالتفصيل خاصة ما قالوه في غزوة بني المصطلق من أنهم سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة، وأن العزة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال العظيمة الفظيعة( ).
قال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) [المنافقون: 5-8].
وهكذا كان المجتمع المدني يتربى بالأحداث, والقرآن الكريم يقوم بتوجيهه وتعليمه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بالإشراف على ذلك.
خامسًا: محاولة المنافقين الطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء على عائشة- رضي الله عنها – بما يعرف بحديث الإفك:
حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية، فقد ألمت بالبيت النبوي هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته الأطهار. هذا وقد أجمع أهل المغازي والسير( ) على أن حادثة الإفك كانت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وتابعهم في ذلك المفسرون( )، والمحدثون( ).
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث الإفك في صحيحيهما، وهذا سياق القصة من صحيح البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها( ) فخرج سهمي, فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي( ) وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك, وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل, فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش, فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جَزْعِ ظَفَارٍ( ) قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط( ) الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم, إنما نأكل العُلقة( ) من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنة فبعثوا الجمل، وساروا, فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب, فأقمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي( ) ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج( ) فأصبح عند منزلي, فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه( ) حين عرفني, فخمرت( ) وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه, حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها, فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين( ) في نحر الظهيرة( ), فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول.
1- انتشار الدعاية بالمدينة:
وقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك, وهو يريبني( ) إني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟»( ) ثم ينصرف, وذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت, فخرجت معي أم مسطح قِبَل المناصع( ), وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف( ) قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رُهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة( ), فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها( ), فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرًا؟ قالت: أي هنتاه( ) أَوَ لَمْ تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بخبر أهل الإفك فازددت مرضًا على مرضي, قالت: فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -تعني فسلَّم- ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويَّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قِبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة( ) عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها( ), قالت: فقلت: سبحان الله لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع( ) ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.
2- استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه عند تأخر نزول الوحي:
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث( ) الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود, فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرًا أَغْمصه( ) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها, فتأتي الداجن( ) فتأكله. فقام رسول الله فاستعذر( ) يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً( ) ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
3- آثار فتنة الإفك:
قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية( )- فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان( ) الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع, يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها.
4- مفاتحة الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وجوابها له:
وقد لبث الوحي شهرًا( ) لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: «أما بعد: يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ( ) , فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلُصَ( ) دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت إني بريئة، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقن، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف( ) قال: ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) [يوسف: 18]. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزلٌ في شأني وحيًا يتلى, ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
5- نزول الوحي ببراءة عائشة:
قالت: فوالله ما رام( ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البُرحَاء( ) حتى أنه ليتحدر منه مثل الجُمَان( ) من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي يَنْزِل عليه.
قالت: فلما سُرِّي( ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: «يا عائشةُ، أما الله عز وجل فقد برأك» فقالت أمي: قومي إليه، قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل. وأنزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [النور: 11-20].
6- موقف أبي بكر الصديق ممن تكلم في عائشة رضي الله عنها:
فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله ( وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النور: 22].
قال أبو بكر: بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش( ) عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي( ) سمعي وبصري، وما علمت إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تساميني( ) من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعصمها الله( ) بالورع( ) وطفقت( ) أختها حمنة( ) تحارب لها, فهلكت ممن هلك من أصحاب الإفك( ).
كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعداء الدين، وكان من لطف الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية, لا سيما موقف أبي أيوب وأم أيوب، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية، فقد انقطع الوحي، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها( ).
سادسًا: أهم الآداب والأحكام التي تؤخذ من آيات الإفك:
أخذ العلماء من الآيات التي نزلت في حادثة الإفك أحكامًا وآدابًا من أهمها ما يأتي:
1- تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها من الإفك بقرآن يتلى إلى آخر الزمان, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ) [النور: 11].
2- أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشر، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق بحديث الإفك خيرًا لهم, حيث كتب لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم, قال تعالى:( لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )[النور: 11].
3- الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظن فيما بينهم, قال تعالى: ( لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) [النور: 12].
4- تكذيب القائلين بالإفك، قال تعالى: ( لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) [النور: 13].
5- بيان فضل الله على المؤمنين ورأفته بهم, قال تعالى: ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ ) [النور: 14].
6- وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها، والتأكد من صحتها, قال تعالى: ( وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) [النور: 16].
7- النهي عن اقتراف مثل هذا الذنب العظيم أو العودة إليه, قال تعالى:( يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )[النور:17، 18].
8- النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: ( وإِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن
تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونٌَ ) [النور: 19].
9- بيان فضل الله سبحانه على عباده المؤمنين ورأفته بهم وكرر ذلك تأكيدًا له, قال تعالى: ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) [النور: 20].
10- النهي عن تتبع خطوات الشيطان التي تؤدي للهلاك, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [النور: 21].
11- الحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا( ), قال تعالى: ( وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النور: 22].
12- غيرة الله تعالى على عباده المؤمنين الصادقين, ودفاعه عنهم, وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللعن في الدنيا والآخرة, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) [النور: 23-25].
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات:
ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ارتكب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مُفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) إلى قوله: ( هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) [النور: 23-25] لكفى بها حديثًا جعل القذفة معلونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله( ).
13- بيان سنة من سنن الله الجارية في الكون وهي أن الطيبين يجعلهم الله من نصيب الطيبات, والطيبات يجعلهن من نصيب الطيبين، قال تعالى: ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [النور: 26].
14- والناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا على أربعة أقسام( ):
قال فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد – عند تعليقه على حديث يتعلق بقصة الإفك-: إن الناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا أربعة أقسام:
قسم: وهو أكثر الناس، حموا أسماعهم وألسنتهم فسكتوا، ولم ينطقوا إلا بخير ولم يصدقوا ولم يكذبوا، وقسم: سارع إلى التكذيب، وهم أبو أيوب الأنصاري وأم أيوب رضي الله عنهما، فقد وصفوه عند سماعه بأنه إفك وبرؤوا عائشة مما نسب إليها في الحال.
أما القسم الثالث: فكانوا جملة من المسلمين لم يصدقوا ولم يكذبوا ولم ينفوه، ولكنهم يتحدثون بما يقول أهل الإفك, وهم يحسبون أن الكلام بذلك أمر هين لا يعرضهم لعقوبة الله؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافر, وحاكي الإفك ليس بقاذف, ومن هؤلاء حمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة.
أما القسم الرابع: فهم الذين جاءوا بالإفك وعلى رأس هؤلاء عدو الله عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لعنه الله وهو الذي تولى كبره.
وقد أشار الله عز وجل إلى فضل القسم الثاني من هذه الأقسام، وأنه كان ينبغي لجميع المسلمين أن يقفوا هذا الموقف, فقال: ( لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) [النور: 12].
أما القسم الثالث: فقد أشار الله عز وجل إلى أنه ما كان ينبغي لهم أن يتحدثوا بمثل هذا الحديث حيث يقول: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) [النور: 15، 16].
وقد أثبت الله عز وجل لأهل هذا القسم فضائلهم التي عملوها حيث أثبت لمسطح هجرته وإيمانه عندما حلف أبو بكر أنه لن ينفق على مسطح، ولن يتصدق عليه وهو من ذوي قرابته, فقال عز وجل: ( وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النور: 22].
أما القسم الرابع: وهو جماعة عبد الله بن أبي الذين جاءوا بالإفك واخترعوا هذا الكذب, فقد أشار الله إلى موتهم على الكفر، وأنه لن يقبل منهم توبة، وأنه أنزل عليهم لعنته في الدنيا والآخرة( ), حيث قال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) [النور: 23-25].
سابعًا: فوائد وأحكام ودروس من حادثة الإفك وغزوة بني المصطلق:
1- بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم:
جاءت محنة الإفك منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمرًا ذاتيًّا غير منفصل عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم, لما عاش الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المحنة بكل أبعادها شهرًا كاملاً، ولكن الحقيقة التي تجلت للناس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته، فعندما حسم الوحي اللغط الذي دار حول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرح الجميع بهذه النتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدل ذلك على حقيقة الوحي، وأن الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة, ولانعكس ذلك على تصرفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيرًا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم( ).
2- حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين:
كان المجتمع الإسلامي يتربى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى -عز وجل- أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين, ولذلك نزلت سورة النور، التي تحدثت عن حكم الزاني والزانية وعن قبح فاحشة الزنا، وعما يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزوجين صاحبه، وعن العقوبة التي أوجبها الله على الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى غير ذلك من الأحكام( ).
إن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، فقد حرم أيضًا كل الأسباب المسببة له، وكل الطرق الموصلة إليه، ومنها إشاعة الفاحشة والقذف بها لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة والحديث عنها؛ لأن كثرة الحديث عن فاحشة الزنا وسهولة قولها في كل وقت يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، لهذا حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت على من قذف عفيفًا أو عفيفة, طاهرًا أو طاهرة, بريئًا أو بريئة من الزنا حد القذف وهو الجلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحًا( ).
هذا وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، وروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانًا وحمنة، وذكره الترمذي( ) قال القرطبي: والمشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدَّ حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد عبد الله بن أبي( ). وقد وردت آثار ضعيفة تدل على أن عبد الله بن أبي أقيم عليه الحد، ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة( ).
وقد ذكر ابن القيم وجه الحكمة في عدم حد عبد الله بن أبي فقال:
أ- قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك, وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ويكفيه عن الحد.
ب- وقيل: كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه.
ج- وقيل: الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد, فإنه كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
د- وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارًا, وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم من الإسلام.
ثم قال في ختام كلامه ولعله تُرك لهذه الوجوه كلها( ).
3- اعتذار حسان للسيدة عائشة رضي الله عنها:
قد بينت الروايات أن مَنْ خاض في الإفك قد تاب ما عدا ابن أبي، وقد اعتذر حسان عما كان منه، وقال يمدح عائشة بما هي أهل له( ):
من المحصنات غير ذات غوائل
رأيتك وليغفر لك الله حرة
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
حصان رزان ما تزن بريبة
بك الدهر بل قيل امرئ متناحل
وإن الذي قد قيل ليس بلائق
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم
لآل رسول الله زين المحافل
فكيف وودي ما حييت ونصرتي
قصارًا، وطال العز كل التطاول( )
وإن لهم عزًا يرى الناس دونه
4- من الأحكام المستنبطة من غزوة بني المصطلق:
جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، ومنها صحة جعل العتق صداقًا كما فعل صلى الله عليه وسلم مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء( )، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن ورماها بما اتهمت به فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن( ). ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فأذن به وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة»( ). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها( ), ونزلت آية التيمم في هذه الغزوة، تنويهًا بشأن الصلاة، وتنبيهًا على عظيم شأنها، وأنه لا يحول دون أدائها فقد الماء، وهو وسيلة الطهارة التي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف وفقد الأمن من إقامتها( ).