الجمعة , يوليو 26 2024

سرية مؤتة وذات السلاسل

نتناول فيما يلي سرية مؤتة وذات السلاسل من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور على محمد الصلابي، باختصار وتصرف.

ذات صلة:

banar_group

سرية مؤتة وذات السلاسل

4- سرية مؤتة:

الأسباب:

أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والرومان:

1- قبيلة كلب من قضاعة كانت تنزل على دومة الجندل تؤذي تجار المسلمين إلى المدينة ولهذا غزا الرسول صلى الله عليه وسلم قبيلة كلب بدومة الجندل (5 هـ) لكنهم فروا.

2- قطع رجال من جرام ولحم الطريق على دحية الكلبي عند مروره بحسمى في مهمة لرسول الله، واستقلبوا ما معه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية زيد بن حارثة (6 هـ) إلى حسمى.

3- قبيلتا مذحج وقضاعة اعتدت على زيد بن حارثة وصحبه حينما ذهبوا إلى وادي القرى في مهمة دعوية (6 هـ).

4- قيام شرحبيل بن عمرو الغساني بقرب عنق الحارث بن عمير الأزمي رسول رسول الله إلى حاكم بصرى التابع لحاكم الروم، ولم تجر العادة بقتل الرسل.

5- حاكم دمشق الحارث بن أبي شمر الغساني أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة.

6- حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري إلى (ذات أطلاح) ليدعوهم إلى الإسلام، لم يستجيبوا بل أحاطوا بالدعاة وقتلوهم إلا أميرهم جرح وتحامل على جرحه حتى وصل المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

7- تكرار اعتداءات نصارى الشام بزعامة الردءان على من يعتنق الإسلام فقد قتلوا وإلى معان حين أسلم، وقتل وإلى الشام من أسلم من عرب الشام.

كل هذه الحوادث وخاصة مقتل سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً لخروج هذه الغزوة.

خرج المسلمون في 8 هـ وعددهم 3000 في سرية واختار النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة أمراء فقال: إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فابن رواحة.

وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث وأن يدعوهم إلى الإسلام وإلا يقاتلوهم، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله، في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناء وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب”.

ثم ودعهم صلى الله عليه وسلم وقال: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين.

وبكى ابن رواحة فقيل ما يبكيك؟ فقال: والله ما حب الدنيا وصبابه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار ” وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا”

مريم 71

فلست أدري كيف بي بالصدر بعد الورود.

استشهاد الأمراء الثلاثة:

لما وصل المسلمون إلى (معان) بلغهم أن النصارى العرب خرجوا في 100 ألف مقاتل وهرقل كذلك 100 ألف من الروم فأصبحت قوة العدوة 200 ألف مقابل 3 آلاف مسلم أي 66 ضعفهم.

تشاور المسلمون واقترحوا أن يرسلوا لرسول الله بالخبر وإن شاء أمرنا وإن شاء أمرنا بالقتال.

فقال ابن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون الذي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقالتهم إلاّ بهذا الدين الذي كرمنا الله فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، وإما ظهوراً وإما الشهادة.

فألهمتهم كلمات ابن رواحة حماس ومشاعر المسلمين، واندفع زيد بالجيش إلى منطقة مؤتة وفيها دارت المعركة.

وكانت ملحمة عجيبة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة حتى استشهدوا فقد توغل في صفوف العدد ومعه الراية في شاط في رماح القوم.

ثم حمل الراية جعفر ـــــــ وانبرى يتصدى العدو حتى كشفوا حملاتهم عليه، فقطعوا يمينه فأخذ الراية بشماله فقطعت فحمل الراية بين عضديه حتى استشهد وهو ابن 33 سنة ووجدوا في جسده بضعاً وتسعين من بين طعنة أو رمية كلها في صدره وليس بينها جرح في ظهره.

ثم حمل الراية ابن رواحة وقاتل حتى استشهد.

اختيار خالد:

حمل الراية ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل ثم نظر إلى خالد وقال: خذ اللواء يا أبا سليمان. فقال: لا أخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن فقد شهدت بدراً. فقال: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلاّ لك.

أخذ الراية خالد وغير خطة المعركة ورأى ضرورة الانسحاب فخطط للانسحاب بأقل الخسائر.

قام خالد في اليوم التالي تبديل الميمنة والميسرة وأيضاً المقدمة بالمؤخرة وأمر باصطناع غبار كثيف، فظن العدو أن المسلمين جاءهم مدد فقد تغيرت الوجوه ورأوا غباراً كثيفاً.

ثم أمر خالد الجيش أن يحملوا على العدو عند الفجر بهجمات سريعة متتالية وقوية فتوهم العدو مدداً قوياً وصل للمسلمين.

وقد فت ذلك في عضد الروم خاصة أنهم رأوا قوة شكيمة المسلمين في المعركة أمس ثم عمد خالد إلى الانسحاب بنظام متفق عليه وهو سحب الجناحين للخلف أولاً ثم سحب القلب.

يقول المؤرخون: إن خسارة المسلمين لن تتعد 12 شهيداً بما فيهم القادة بينما قتل من المشركين عدد كبير حتى أن خالداً قال: لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلاً صفيحةٌ لي يَمانِيةٌ.

معجزة النبي:

علم النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي خبر المعركة فنعى لأصحابه زيداً وجعفراً وابن رواحة قبل أن يعود الجيش من المدينة تلقاهم رسول الله والمسلمون، ولقيهم الصبيان يحثون عليهم التراب وينشدون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر (عبد الله) فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه.

دروس وفوائد:

1- أهمية الغزوة: أول صدام مع الروم وكانت مقدمة لفتح بلاد الشام.

2- حب الشهادة الباعث على التضحية.

3- تفرد المعركة بتعيين ثلاثة أمراء وتفردها كذلك بأن جاء النبي صلى الله عليه وسلم خبر السماء.

4- دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس زوجة جعفر فقال: ائتيني ببني جعفر فتشممهم وذرفت عيناه.

فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم. فصاحت وولولت ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع الطعام لأهل البيت فقال: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.

وبعد ثلاثة أيام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البكاء على الميت فقال لأسماء: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي، فأخذهم ودعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلقي، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاثاً.

ولما ذكرت له أسماء يتمهم وضعفهم قال: العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة.

وبعد أن انقضت عدة أسماء وتزوجها أبو بكر الصديق ووعدت له محمد بن أبي بكر، ولما مات أبو بكر تزوجها على بن أبي طالب أخو جعفر وولدت له أولاداً.

5- من فقه القيادة: اختيار الأكفأ حتى ولو كان حديث عهد بالإسلام، فخالد لم يمض على إسلامه ثلاثة أشهر.

6- درس نبوي في احترام القيادة:

في غرفة مؤتة استطاع رجل يمني في جيش المسلمين أن يقتل رومياً ويأخذ سلبه، فأمر خالد بأخذ بعض السلب منه لأنه استكثر عليه.

فقام عوف بن مالك لخالد ونهاه عن أخذ السلب لكن خالد لم يفعل.

فقال عوف: لتردنها إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله، فأبى خالد أن يرد.

فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً أن يرد للرجل ما أخذه منه.

فإذا بعوف يقول لخالد: دونكها يا خالد ألم أف لك؟

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كلام عوف فيه نوع من الانتقاص من خالد قال: يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوةُ أمرهم وعليهم كدَرُه.

وكان كلام النبي صلى الله عليه وسلم حماية للقادة من أي إهانة عندما يخطئون بل وأشاد بالوصف والمدح بخالد حين قال “أمرائي”.

أن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم لها نظام.

5- سرية ذات السلاسل:

لم تمض أيام على مؤتة إلا وتجرأت قضاعة (المشاركة مع الروم مؤتة) وتجمعت تدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في 300 من المهاجرين والأنصار في طلب مدد من النبي فأرسل النبي أبي عبيدة بن الجراح 200.

وتوغل عمرو في دار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت، وأعاد عمرو هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أخلاف المسلمين لصداقتهم الأولى ودخول قبائل أخري في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس وبني مرة وبني ذيبان وكذلك دخول فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين وتبعها بنو سليم وعلى رأسهم العباس بن مرداس وبنو أشجع وأصبح المسلمون هو الأقوى في شمال بلاد العرب.

دروس وفوائد:

1- بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو يقول: خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني ولما جاءه صقر إليه النظر وقال: إنِّي أُريدُ أن أَبعثَكَ على جَيشٍ، فيُسَلِّمَك الله ويُغْنِمَك، وأَرْغَبُ لك في المال رغبة صالحة.

قال عمرو: ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح.

الموقف يدل على صدق عمرو وبيان نعمة المال للرجل الصالح.

2- عدم التنازع: لما وصل أبو عبيدة بالمدد أراد أن يؤم الناس، فرفض عمر قائلاً: إنما قدمت على مدداً لي وليس لك أن تؤمي وأنا الأمير وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدداً.

فقال المهاجرون: كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه.

فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف وكان حسن الخلق لين الطبع قال: لتطمئن يا عمرو وتعلمن أن آخر ما عهد إلى رسول الله أمر قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوى ولا تختلفا.

وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس.

فقد علم أبو عبيدة أن الاختلاف قد يؤدي إلا الفشل.

3- حرص عمرو على سلامة الجيش:

كان يسير ليلاً ويختفي نهاراً، ولم يسمح الجند بإيقاد النار وعندما هزم العدو منع المسلمين من مطاردة العدو خشية الوقوع في كمين.

4- الصلاة متيمماً: صلى عمرو بالناس إماماً، وقد كان جنباً والليلة باردة فتيمم وصلى، فاشتكى الناس للنبي فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟

فقال: إني سمعت الله يقول “وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.

وفي الموقف أحكام منها: جواز التيمم إذا خشى الضرر مع وجود الماء – جواز الاجتهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رغم حداثة إسلام عمرو – جواز الإمامة بالمتيمم.

5- من نتائج سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمال أنها أمنت الحدود الإسلامية وبسطت هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة.

وهكذا فإن صلح الحديبية كان بحق فتحاً عظيماً فقد تحققت مكاسب ومراسلة ملوك سياسية وعسكرية وإعلامية، ومن أبرز توابع الحديبية فتح خيبر وموكب العمرة وبسط النفوذ في الشمال وإسلام الكثيرين وعلى رأسهم عمرو وخالد وإقبال المتحالفين للتحالف مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز آثار الحديبية ما وقع بعد ذلك من فتح مكة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *