نقدم لكم سيرة الإمام أحمد بن حنبل (2) رابع الأئمة الأربعة، وفيها جلوسه للحدبث والفتوى، ومحنته فتنة خلق القرآن، ومرضه ووصيته ووفاته رضي الله عنه.
قد يهمك:
سيرة الإمام أحمد بن حنبل (2)
جلوسه للتحديث والفتوى:
بني الإمام أحمد بن حنبل فتاويه القرآن، والسنة، وفتوى الصحابة، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والمصالح، والذرائع.
قد قال ابن الجوزي: «إلا أن الإمام أحمد رضي الله عنه لم يتصدر للحديث والفتوى، ولم يُنصب نفسه لهما حتى تم له أربعون سنة”.
وكان ذلك بعدما قصده الناس للسؤال عن الحديث والفقه.
ولم يكن كل الذين يحضرون الدرس راغبين في علم ابن حنبل، بل منهم من كان يتيمن به ويريد أن يتعظ به وينظر إلى هديه وخلقه وأدبه.
فقد رُوي عن بعض معاصريه أنه قال: “اختلفت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده، فما كتبت منه حديثاً واحداً، وإنما كنت أميل إلى هديه وأخلاقه وآدابه”.
كان للإمام أحمد مجلسان للدرس والتحديث:
- أحدهما في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده.
- والثاني في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ.
وقد كان درسه في المسجد بعد العصر، يسوده الوقار والسكينة مع تواضع واطمئنان نفسي، لا يمزح ولا يلهو، وكان مخالطوه سواء شيوخه أو تلاميذه لا يمزحون في حضرته، فكان ابن حنبل يرى أن رواية السنة عبادة، ولا مزاح في وقت العبادة.
فقد روي عن خلف بن سالم أنه قال: كنا في مجلس يزيد بن هارون، فمزح يزيد مع مستمعيه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب بيده على جبينه وقال: “ألا أعلمتموني أن أحمد هنا حتى لا أمزح؟”.
كان ابن حنبل لا يروي حديثاً نبوياً إلا من كتاب حرصاً على جودة النقل، وكان نادراً أن يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب، وكان لا يلقي درسه من غير طلب.
قال ولده عبد الله: “ما رأيت أبي حدث من حفظه من غير كتاب إلا بأقل من مئة حديث”.
وقد وصف المروذي صاحب أحمد بن حنبل مجلسه فقال:
“لم أرَ الفقيرَ في مجلس أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم، مقصِّراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حِلم، ولم يكن بالعجول بل كان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يسأل”.
دروس أحمد بن حنبل:
كانت تنقسم دروس أحمد بن حنبل إلى قسمين من حيث الموضوع:
1- رواية الحديث ونقله، وهذه يمليها على تلاميذه من كتاب ولا يعتمد على حفظه إلا نادراً، فكان لا يستجيز التدوين إلا للأحاديث النبوية.
2- فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه، ، وكان أبغض الأشياء إليه أن يرى كتاباً قد دونت فيه فتوى له.
وقد بلغه أن بعض تلاميذه روى عنه مسائل ونشرها خراسان، فقال: “اشهدوا أني رجعت عن ذلك كله”.
وجاء إليه رجل خراساني يكتب، فنظر في كتاب من بينها فوقع نظره فوجد كلامه، فغضب ورمى الكتاب من يديه.
كان يَكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريغ والرأي له ولغيره ، ويحب التمسك بالأثر.
روي عنه أنه قال لعثمان بن سعيد: “لا تنظر في كتب أبي عبيد ولا فيما وضع إسحاق ولا سفيان ولا الشافعي ولا مالك، وعليك بالأصل”.
محنة الإمام أحمد بن حنل:
فتنة خلق القرآن
دعا الخليفة المأمون الفقهاء والمحدثين ليقولوا إن القرآن مخلوق محدَث، لكن الإمام أحمد بن حنبل لم يوافق المأمون في رأيه، بل قال إن القرآن كلام الله، فنزل به وبمن يوافقه الرأي الأذى الشديد من عصر المأمون ثم عصر المعتصم والواثق وحبس 28 شهراً في ذلك الأمر.
وانتهت تلك المحنة بأن القرآن غير مخلوق في عهد الخليفة المتوكل.
قال ابن الجوزي: “أطفأ المتوكل نيران البدعة، وأوقد مصابيح السنة”.
مرض الإمام أحمد بن حنبل:
قال صالح بن أحمد بن حنبل واصفاً مرضَ أبيه قُبيل وفاته:
“لما كان في أول يوم من شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومئتين حُمَّ أبي ليلة الأربعاء، فدخلتُ عليه يوم الأربعاء وهو محموم يتنفس تنفساً شديداً، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرِّضُه إذا اعتل، فقلت له: «يا أبة، علام أفطرت البارحة؟»
قال: «على ماء باقلَّاء»، ثم أراد القيام فقال: «خذ بيدي»، فأخذت بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتى توكأ علي.
وكان يختلف إليه غيرُ متطبب كلهم مسلمون، فوصف له متطبب يُقال له عبد الرحمن قَرعةً تُشوى ويُسقى ماءها، وهذا يوم الثلاثاء، وتوفي يوم الجمعة.
فقال: «يا صالح».
قلت: «لبيك».
قال: «لا تُشوى في منزلك ولا منزل عبد الله أخيك».
وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته، وأتى ابن علي بن الجعد فحجبته، وكثُر الناس، فقلت: «يا أبةِ قد كثر الناس».
قال: «فأي شيء ترى؟».
قلت: «تأذن لهم فيدعون لك».
قال: «أستخير الله».
فجعلوا يدخلون عليه أفواجاً حتى تمتلئ الدار، فيسألونه ويدعون له ثم يخرجون ويدخل فوج آخر، وكثر الناس وامتلأ الشارع وأغلقنا باب الزقاق،.
وجاء رجل من جيراننا قد خضب فدخل عليه فقال: «إني لأرى الرجلَ يُحيي شيئاً من السنة فأفرح به»، فدخل فجعل يدعو له، فجعل يقول: «له ولجميع المسلمين».
وجاء رجل فقال: «تلطَّفْ لي بالإذن عليه، فإني قد حضرت ضربه يوم الدار وأريد أن أستحله».
فقلت له: «فأمسك».
فلم أزل به حتى قال: «أدخله».
فأدخلته، فقام بين يديه وجعل يبكي وقال: «يا أبا عبد الله، أنا كنت ممن حضر ضربك يوم الدار، وقد أتيتك، فإن أحببتَ القِصاص فأنا بين يديك، وإن رأيتَ أن تُحلَّني فعلت».
فقال: «على أن لا تعود لمثل ذلك»،
قال: «نعم»،
قال: «قد جعلتك في حل»، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس.
وكان له في خُريقة قُطيعات، فإذا أراد الشيء أعطينا من يشتري له، فقال لي يوم الثلاثاء وأنا عنده: «انظر في خريقتي شيء؟»،
فنظرت فإذا فيها درهم، فقال: «وجِّه فاقتَضِ بعض السكان»، فوجهت فأعطيت شيئاً.
فقال: «وجِّه فاشتر تمراً وكفِّر عني كفارة يمين».
فوجهت فاشتريت وكفرت عنه كفارة يمين، وبقي ثلاثة دراهم أو نحو ذلك، فأخبرته،
فقال: «الحمد لله»، وقال: «اقرأ علي الوصية»، فقرأتها عليه فأقرَّها.»
وصية الإمام أحمد بن حنبل:
بسم الله الرحمن الرحيم..
هذا ما أوصى به أحمد بن محمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين، وأوصي أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف بفوران علي نحو من خمسين ديناراً، وهو مصدَّق فيما قال، فيُقضى ما له علي من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استُوفي أُعطي ولدُ صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم.
وفاة الإمام أحمد بن حنبل:
مات أحمد بن حنبل في وقت الضحى من يوم الجمعة في 12من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وهو ابن 77 سنة، ودُفن بعد العصر في مقبرة باب حرب، ثم نقل رفات الإمام أحمد بن حنبل أيام فيضان نهر دجلة سنة 1937م إلى مسجد عارف أغا في منطقة الحيدرخانة ببغداد وقد كتب عليه «ضريح أحمد بن حنبل».
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «توفي أبي في يوم الجمعة ضحوة، ودفناه بعد العصر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين».