شاع أمر عيسى بن مريم في القوم، وظهرت معجزته بأن تكلم في المهد، لكن القوم اختلفوا فيما بينهم في أمر عيسى.
فادعت طائفة من اليهود بأنه ولد زنية واستمروا في عنادهم وكفرهم، وادعت طائفة أخرى أنه الله كما ادعت طائفة ثالثة بأنه ابن الله، وادعى آخرون بأن عيسى إله وهو ثالث ثلاثة.
فيما آمن به من كتب الله لهم الهداية وآمنوا بنبوته ورسالته.
وكان ملك الفرس قد رأى النجم الساطع في السماء فخاف من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض.
فبعث رسله بالهدايا ليبحثوا عمن ولد في هذا اليوم، فلما وصلوا للشام سألوا ملك الشام، فأخبرهم بأمر عيسى وميلاده ببيت المقدس وكلامه في المهد.
فلما طلبوا منه الذهاب إليه بالهدايا، أرسل ملك الشام معهم من يتعرف جيداً على عيسى حتى يقتله فيما بعد.
الهجرة إلى مصر
وصل الأمر للسيدة مريم أن رسل ملك الشام ما جاءوا إلا ليقتلوا ابنها عيسى، فخافت عليه وحملته وذهبت به إلى مصر، وخلال فترة إقامته بمصر ظهرت عليه كرامات ومعجزات وهو صغير.
نزلت السيدة مريم وابنها عند منزل لا يسكنه إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج، وذات يوم فقد صاحب المنزل مالاً من داره ولم يدر من سرقه، وشق الأمر على الناس.
فلما رأى عيسى ذلك، عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد، فقال: احمل هذا المقعد وانهض به.
فقال: إني لا أستطيع ذلك.
فقال عيسى: بل تستطيع، كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار.
فما كان منهما إلا أن اعترفا وأرجعا المال لصاحبه، فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير.
وصنع ابن صاحب المنزل ضيافة للناس بمناسبة طهور أولاده، ولما أراد أن يسقيهم شراباً لم يجد في الأوعية شيئاً فشق عليه.
فلما رأى عيسى ذلك مرر يده على الأوعية وعاءً وعاءً فإذا به يمتلئ بالشراب، فتعجب الناس من ذلك وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالاً جزيلاً، فلم يقبلاه.
وظلت مريم وابنها عيسى في مصر حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة، ثم ارتحلا قاصدين بيت المقدس مرة أخرى.
إلى بيت المقدس مرة أخرى
وفي أرض المقدس أنزل الله الإنجيل على عيسى عليه السلام، وعلمه الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل، وأرسله الله إلى بني إسرائيل، وهو آخر أنبياء بني إسرائيل.
وأجرى الله عليه يديه معجزات وآيات تثبت نبوته، فلما جاء بني إسرائيل، قال: إني رسول الله إليكم، وقد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.
وأبرئ الأكمه والأبرص وأحى الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وتدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون، إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم.
وكان كلام نبى الله عيسى واضحاً معهم، أنه رسول من عند الله لبني إسرائيل، وجاءهم بشرعة التوراة والتي هي تصديق لما كان في الإنجيل والذي ضاع من بين يدي بني إسرائيل.
وكان عيسى يقوم بمعجزات يجريها الله على يديه، فقد كان يصنع من الطين ما يشبه الطير فينفخ فيه فيصبح طيراً، ويبرئ المريض من مرضه، ويكشف للقوم عما بداخل بيوتهم مما يدخرونه من الطعام ومما سيأكلوه، وكان مما جاء به عيسى أن يحل لهم ما قد حرم عليهم من قبل.
ولما جاءهم عيسى بالبينات استهزأ بها المنافقون والكافرون من بني إسرائيل فكانوا يقولون: ما أكل فلان البارحة وما أدخر في منزلة؟ فيخبرهم، فيزداد المؤمنون إيماناً والكافرون والمنافقون شركاً وكفراناً.
أوحى الله إلى عيسى بن مريم:
أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخراً لك في معادك، وتقرب إليّ بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريباً وأحيي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك، تيقظ من ساعات الغفلة واحكم في لطيف الفطنة، وكن لي راغباً راهباً وأمت قلبك في الخشية لي، وراع الليل لحق مسرتي وأظمئ نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي، فقد نزلت عليك شفاء وسواس الصدور من مرض النسيان وجلاء الأبصار من غشاء الكلال ولا تكن حلماً كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.
كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل، فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟
قال: نعم
قال: ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر عليّ.
فقال: يا لعين! الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عز وجل.
وكان عيسى ليس له منزل يأوي إليه إنما يسيح في الأرض ليس له قرار ولا موضع يعرف به، ولذا سمى مسيح.
وكان أول ما أحيا من الموتى أنه مرّ ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها: مالك، أيتها المرأة؟
فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها.
فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟
قالت: نعم.
فصلى ركعتين، ثم جاء فجلس عند القبر فنادى: يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي.
فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله؛ ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟
فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكاً فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إليّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة.
ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين، يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته، سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت.
فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض.
وسأل بنو إسرائيل عيسى أن يحيى لهم ابن نوح عليه السلام، فدعا عيسى الله عز وجل وصلى فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد تراباً.
ومات ملك من ملوك بني إسرائيل وحمل على سريره فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، فرأى الناس أمراً هائلاً ومنظراً عجيباً.
وكان زمن عيسى بن مريم مميزاً بالأطباء والحكماء الماهرين، فجاء بمعجزات يعجز عنها هؤلاء الأطباء، فكان يستطيع إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالاً من الأعمى، ويشفي الأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، فضلاً عن إحياءه الموتى.
ورغم كل هذه الآيات العظيمة إلا أن طائفة من بني إسرائيل كفروا بما جاء به عيسى وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين.
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ ويساعدني في الدعوة إلى الله؟
قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
وسمى الحواريون بالنصارى لأنهم نصروا عيسى عليه السلام، وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى أن جعل له أنصاراً وأعواناً ينصرونه ويدعون معه الى عبادة الله وحده لا شريك له.
وكان ممن آمن به أيضاً أهل انطاكية بكمالهم، وبعث إليهم عيسى رسلاً ثلاثة، فآمنوا واستجابوا، لكن طائفة أخرى من بني إسرائيل كفرت بعيسى ولم تنصره.
قال عيسى للحواريين:
كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين، بحق ما أقول لكم إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يود أن الناس كلهم مثله.
طلب إنزال مائدة من السماء
أمر عيسى الحواريين بصيام ثلاثين يوماً، فلما أتموها سأل بعضهم عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيداً يفطرون عليها يوم فطرهم وتكون كافية لأولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم.
فقالوا: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟
فقال عيسى: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.
فلما وعظهم عيسى عليه السلام في ذلك وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عز وجل.
فقام عيسى إلى مصلاه وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا فقال:
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدنا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين.
قال الله: إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين.
وأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنوا قليلاً قليلاً، وكلما دنت سأل عيسى ربه عز وجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة.
فلم تزل تدنوا حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول “بسم الله خير الرازقين”.
فلما أكلوا منها برأ كل من به عاهة أو آفه أو مرض، ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم.
ثم أصبحت تنزل يوماً بعد يوم، ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الأغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.
تابع أيضاً: