الخميس , ديسمبر 5 2024

قصة الإمام الشافعي (2)

نقدم لكم قصة الإمام الشافعي (2) أخلاقه وصفاته، وفضله وثناء النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء عليه، ومجادلته لمخالفيه وأسلوبه في ذلك، ووفاته وسببها.

قد يهمك:

قصة الإمام الشافعي (2)

أخلاقه وصفاته:

1- غزارة العلم

  • كان الشافعي جامعاً للنظر في عدد من العلوم غزير العلم قال الربيع بن سليمان:

“كان الشافعي رحمَه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار.

  • وقد وصف أبو زكريا السلماسي علمه فقال:

جمع أشتات الفضائل، ونظم أفراد المناقب، وبلغ في الدين والعلم أعلى المراتب، إن ذُكر التفسير فهو إمامه، أو الفقهُ ففي يديه زمامه، أو الحديث فله نقضه وإبرامه، أو الأصول فله فيها الفصوص والفصول، أو الأدب وما يتعاطاه من العربية العرب فهو مبديه ومعيده، ومعطيه ومفيده، وجهه للصباحة، ويده للسماحة، ورأيه للرجاحة، ولسانه للفصاحة، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، والمصباح الزاهر في الظلمة، في التفسير ابن عباس، وفي الحديث ابن عمر، وفي الفقه معاذ، وفي القضاء علي، وفي الفرائض زيد، وفي القراءات أُبَيّ، وفي الشعر حسان، وفي كلامه بين الحق والباطل فرقان.

وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً، قلت فيها بقول الشافعي رضيَ الله عنه، لأنه إمامٌ عالمٌ من قريش، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “عالم قريش يملأ الأرض علماً”.

2- الذكاء والفراسة

  • كان الشافعي فائق الذكاء ولديه فراسة ومن بعض مواقفه:

“كان ذات مرةٍ جالساً مع الحميدي ومحمد بن حسن يتفرسون الناس، فمر رجل فقال محمد بن الحسن: يا أبا عبد الله انظر في هذا، فنظر إليه وأطال، فقال ابن الحسن: أعياك أمره؟

قال: أعياني أمره، لا أدري خياط أو نجار.

قال الحميدي: فقمت إليه فقلت له: «ما صناعة الرجل؟»، قال: كنت نجاراً وأنا اليوم خياط”.

3- التواضع

كان الشافعي متواضعاً مع كثرة علمه وتنوعه، فقال ذات مرة:

“ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي”.

وعن الربيع بن سليمان أنه قال:

“سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه، ولم ينسب إلي منه شيء أبداً”.

وعن حرملة بن يحيى أنه قال:

“سمعت الشافعي يقول: وددت أن كل علم أعلَمه تعلَمه الناس، أوجر عليه ولا يحمدوني”.

وقال أحمد بن حنبل:

“قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً”.

4- الكرم

كان الشافعي معروفاً بالكرم والسخاء.

قال الربيع بن سليمان:

“تزوجت، فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟

فقلت: ثلاثين ديناراً.

فقال: كم أعطيتها؟

قلت: ستة دنانير، فصعد داره، وأرسل إلي بصرَّة فيها أربعة وعشرون ديناراً.

وقال عمرو بن سواد السرحي:

كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي: أفلستُ في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حليّ ابنتي وزوجتي، ولم أرهن قط”.

5- كثيرالعبادة

كان الشافعي ورعاً كثير العبادة.

عن الربيع بن سليمان المرادي المصري أنه قال: “كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة، كل ذلك في صلاة”.

وقال الحسين بن علي الكرابيسي: “بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة، كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأنما جُمع له الرجاءُ والرهبةُ”.

وقال الربيع بن سليمان:

“كان الشافعي جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام”.

6- كان ورعاً

ومما روي عن ذلك قول الحارث بن سريج:

“أراد الشافعي الخروج إلى مكة، فأسلم إلى قصّارٍ (الذي يُهَيِّئ النَّسيج بعد نَسْجه) ثياباً بغداديةً مرتفعةً، فوقع الحريق، فاحترق دكان القصار والثياب، فجاء القصار ومعه قوم يتحمل بهم على الشافعي في تأخيره ليدفع قيمة الثياب، فقال له الشافعي: قد اختلف أهل العلم في تضمين القصّار، ولم أتبين أن الضمان يجب، فلست أضمنك شيئاً».

7- الزهد


وقال الحارث بن سريج: دخلت مع الشافعي على خادم للرشيد، وهو في بيت قد فرش بالديباج (نسيج من الحرير الأصيل)، فلما وَضع الشافعيُ رجلَه على العتبة أبصره (أي أبصر الديباج)، فرجع ولم يدخل، فقال له الخادم: ادخل.

فقال: لا يحل افتراشُ هذا، فقام الخادمُ متمشياً، حتى دخل بيتاً قد فرش بالأرمني، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه فقال: هذا حلال، وذاك حرام، وهذا أحسن من ذاك وأكثر ثمناً منه، فتبسم الخادم، وسكت.

وعن الربيع بن سليمان أنه قال:

“قال الشافعي: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعةً اطّرحتها (يعني فطرحتها) لأن الشبعَ يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة”.

ومن أشعار الشافعي في الزهد:

تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حُبَّهُ هذا محالٌ في القياسِ بديعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه إنَّ المحبَّ لمَن يحبُّ مُطيعُ

في كل يوم يبتديك بنعمةٍ منه وأنتَ لشكرِ ذاكَ مضيعُ

8- الحث على طلب العلم

كان الشافعيُّ يدعو إلى طلب العلم فيقول:

“من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن نظر في اللغة رَقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه”.

وعن الحميدي أنه قال:

“كان الشافعي ربما ألقى علي وعلى ابنه أبي عثمان المسألة، فيقول: «أيكما أصاب فله دينار”.

وعن الربيع بن سليمان أنه قال:

“سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة”.

فضله والثناء:

أثنى الكثير من العلماء والفقهاء على الشافعي، وكان من أعظم الثناء ثناء النبي صلى الله عليه وسلم.

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبي هريرة عن النبي محمد أنه قال: “اللهم اهد قريشاً فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً، اللهم كما أذقتهم عذاباً فأذقهم نوالاً”، ودعا بها ثلاث مرات،

قال عبد الملك بن محمد أبو نعيم: هذه الصفة لا تنطبق إلا على الشافعي رضي الله عنه.

وقيل: فأجمعت الأمة على أن هذا في الشافعي رضي الله عنه، فلم يخرج من قريش فقيه وإمام يبلغ علمه جميع البلاد إلا الشافعي رضيَ الله عنه.

ثناء أحمد بن حنبل عليه:

  • قال أحمد بن حنبل: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها، فكان عمر بن عبد العزيز رضيَ الله عنه على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي عل رأس المائة الأخرى”.
  • عن إسحاق بن راهويه أنه قال: كنا بمكة والشافعي بها، وأحمد بن حنبل بها، فقال لي أحمد بن حنبل:

“يا أبا يعقوب، جالس هذا الرجل (يعني: الشافعي)، قلت: ما أصنع به، وسنه قريب من سننا؟ أترك ابن عيينة والمقبري؟

فقال: ويحك! إن ذاك يفوت، وذا لا يفوت، فجالسته.

  • عن أحمد بن حنبل أنه قال:

“كانت أقفيتُنا أصحابَ الحديث في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا الشافعي رضيَ الله عنه، وكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث».

  • قال أحمد بن حنبل:

“إني لأدعو لمحمد بن إدريس في صلاتي منذ أربعين سنة، فما كان فيهم (يعني الفقهاء) أتبع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه”.

  • قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي:

“أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟

فقال لي: “يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عِوض».

  • قال أحمد بن حنبل: “ما أحد أمسك في يده محبرة وقلماً إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة”.

ثناء بعض العلماء عليه:

  • قول أبو عبيد القاسم بن سلام:

“ما رأيت رجلاً قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي”.

  • قال يونس بن عبد الأعلى:

“ما رأيت أحداً أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله”.

  • قال عبد الرحمن بن مهدي عن كتاب الرسالة:

“ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو الله للشافعي فيها”.

  • قال أيوب بن سويد الرملي:

“ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل قط”.

  • قال يحيى بن سعيد القطان:

“إني لأدعو الله عز وجل للشافعي في كل صلاة، أو في كل يوم”.

  • قال أبي عبد الله نفطويه:

“مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء”.

مجادلته لمخالفيه:

كان الشافعي من أصحاب اٌمام مالك لكنه كان صاحب طريقة جديدة، وآراء جديدة في الفقه مختلفة،ولم يتجه إلى نقد آراء مالك بل كان يعرض رأيه مع قول خالفت أو وافقت رأي مالك.

اضطر الشافعي إلى أن ينقد آراء شيخه مالك، بعدما بلغه أن في بعض البلاد الإسلامية يقدسون آثار مالك وثيابه، ومنهم من يعارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول مالك.

فتقدم الشافعي (وقد لقب بناصر الحديث) وألف كتاباً سماه “خلاف مالك”، لكنه تردد في إعلانه بين وفاءه لمالك شيخه وأستاذه، وإرشاد الناس لما رآه أخطاءً لمالك، وخشيته على السنة من تقديس الناس له، فطوى الكتاب لمدة سنة ثم استخار فنشره.

يقول الفخر الرازي:

“أن الشافعي إنما وضع الكتاب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستقى بها، وكان يقال لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون قولَ مالك، فقال الشافعي: “إن مالكاً آدمي قد يخطئ ويغلط”، فصار ذلك داعياً للشافعي إلى وضع الكتاب على مالك، وكان يقول: “كرهت أن أفعل ذلك، ولكني استخرت الله تعالى فيه سنة”.

كان للإمام مالك المكان الأول بين المجتهدين في مصر، فثاروا على الشافعي بالنقد والطعن فيه بل ومطالبة الوالي بإخراجه من مصر.

يقول الرازي:

“لما وضع الشافعيُّ كتابَه على مالك ذهب أصحابُ مالك إلى السلطان والتمسوا منه إخراج الشافعي”.

كان الشافعي يميل في جداله دائماً إلى نصرة الحديث ورجال الحديث، مع علمه بالجدل وأساليبه فلم ينقد الشافعي آراء مالك فقط، بل نقد آراء أبي حنيفة وفقهاء العراق، والأوزاعي، وكان الشافعي يجادل ويصاول، من غير أن يمسَّ صاحب الرأي بسوء.

يقول الرازي:

“أما الشافعي رضيَ الله عنه فكان عارفاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل قوياً فيه، وكان فصيحَ الكلام، قادراً على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذاً في نصرة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاءُ أهل الرأي على أصحاب الحديث.

وفاته:

ومات الشافعي، في آخر ليلة من رجب سنة 204 هـ، وقد بلغ من العمر 54 عاماً.

قال الربيع بن سليمان:

“توفي الشافعي ليلة الجمعة، بعد العشاء الآخرة بعدما صلى المغرب آخر يوم من رجب، ودفناه يوم الجمعة، فانصرفنا، فرأينا هلال شعبان، سنة أربع ومائتين”.

سبب وفاته:

يقال أن بعض المالكية ضربوا الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات لانتقاده الإمام مالك حتى تسبب هذا بقتله ودفن بمصر.

ويقال أن سبب موته هو مرض البواسير الذي أصابه.

فقد روى الربيع بن سليمان عن حال الشافعي آخر حياته فقال:

“أقام الشافعي ها هنا (أي في مصر) أربع سنين، فأملى ألفاً وخمسمئة ورقة، وخرج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن، وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب حتى تمتلئ سراويله وخفه (يعني من البواسير)”.

وقال الربيع أيضاً:

دخل المزنيَّ على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقال له: “كيف أصبحت يا أستاذ؟”.

فقال: “أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولسوء عملي ملاقياً”.

قال: ثم رمى بطرفه إلى السماء واستبشر وأنشد:

إليك إلـهَ الخلـق أرفــع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرماً

ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفوك سُلَّمــاً

تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــه *** بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــا

فما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب لم تزلْ *** تـجـود وتعـفو منةً وتكرُّمـــاً

فلولاك لـم يصمِـد لإبلـيسَ عابدٌ *** فكيف وقد أغوى صفيَّك آدمـــاً

فياليت شعــري هل أصير لجنَّةٍ *** أهنـــا وأمـا للسعير فأندمــا

فلله دَرُّ العـــارفِ الـنـدبِ إنه *** تفيض لفرط الوجد أجفانُه دمـــاً

يقيـم إذا مـا الليلُ مدَّ ظلامَــه *** على نفسه من شدة الخوف مأتمـاً

فصيحاً إذا ما كـان في ذكـر ربه *** وفيما سِواه في الورى كان أعجمـاً

ويذكر أيامـاً مضـت من شبابـه *** وما كان فيها بالجهـالة أجرمـــا

تعاظمني ذنبـي فأقبلت خاشعــاً *** ولولا الرضـا ما كنتَ يارب منعمـاً

فإن تعفُ عني تعفُ عـن متمرد *** ظلوم غشــوم لا يـزايـل مأتمـاً

فإن تنتـقـم مني فلست بآيـسٍ *** ولو أدخلوا نفسي بجــرمٍ جهنمـاً

ومن يعتصم بالله يسلمْ من الورى *** ومن يرجُهُ هـيهات أن يتندمـــا

تعليق واحد

  1. رضي الله عن علمائنا العظماء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *