نتناول في هذه المادة هجــــرة الصحابة إلى المدينــــــة من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور على محمد الصلابي باختصار وتصرف.
قد يهمك:
هجــــرة الصحابة إلى المدينــــــة
التمهيد والإعداد لها:
1-إعداد المهاجرين:
التربية الإيمانية العميقة – بضرورة الهجرة بعد استحالة العيش مع الكفر – ” وأرض الله واسعة” – ” والذين هاجروا في الله – بالإضافة إلى الهجرة إلى الحبشة.
2-الإعداد في يثرب:
استغرق عامين منذ إسلام الطليعة الأولى وحتى الهجرة، تخللها بناء القاعدة الواسعة واعدادهم بالقرآن وتكليف مصعب بالمهمة، ثم لما استكمل الاعداد عقدت بيعة العقبة الثانية وتكوين 12 نقيب.
طلائع المهاجرين:
لما بايعت طلائع الخير ثارت ثائرة المشركين، وزاد إيذاءهم للمسلمين.
فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرة.
فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً، ثم خرج على أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها».
فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك.
من أساليب قريش في محاربة المهاجرين :
1-التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
لما أجمع أبو سلمة بن عبد الأسد على الهجرة – وكان أول مهاجر إلى المدينة – أركب زوجته وابنه سلمة على بعير، ثم ركب بعيره وهو يقود زوجته وولده، رآه رجال بني المغيرة بن عبد الله (قوم زوجته)، فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوا أم سلمة وابنها، فغضب لذلك بنو عبد الأسد ( قوم أبي سلمة)، وقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنهما سلمة حتى خلعوا يده، وأخذه بنو عبد الأسد، فانطلق الزوج إلى المدينة وحبست الزوجة عند أهلها وأخذوا ابنها منها، ففرق بين الزوج وزوجته وابنهما، فكانت أم سلمة تخرج كل غداة تجلس بالأبطح تبكي حتى المساء نحو سنة أو قريباً منها، حتى رآها رجل من بني أعمامها فرق لها، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، ورد بنو عبد الأسد ولدها لها،
فحملت ابنها وارتحلت بعيريها وخرجت تريد زوجها نحو المدينة، وليس معها أحد من خلق الله على أن تسأل في الطريق من تلتقيه حتى تصل إلى زوجها، فلما وصلت التنعيم لقيت عثمان بن طلحة وكان على دين قومه يومئذ،
فقال لها: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو ما معك أحد؟
قالت: لا والله إلا الله وبني هذا.
قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير.
وانطلق بها نحو المدينة، حتى أوصلها إلى زوجها بقباء.
تقول أم سلمة: والله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة.
دروس:
هذه أسرة تفرق شملها، وامرأة تبكي مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد مصمماً على الهجرة والانحياز على كتيبة الإيمان، صنيع عثمان بن طلحة يدل على كمال مروءته، ونفاثة معدنه، وحمايته للضعيف، فقد أبت مروءته أن يترك امرأة شريفة تسير وحدها في الصحاري الموحشة وإن كانت على غير دينه.
وكانت سلامة فطرة عثمان هي التي قادته إلى الإسلام فيما بعد، فأسلم بعد صلح الحديبية.
2- أسلوب الاختطاف:
لم تقتصر قريش على منع المسلمين من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل إلى المدينة مهاجراً.
اتفقا عمر بن الخطاب مع عياش بن ربيعة وهشام بن العاص أن يهاجروا سوياً،
ويتجمعوا في وادي على بعد 10 أميال من مكة،
وأن من لم يحضر في الموعد فقد منع،
وأن يذهب الباقي للهجرة،
بالفعل حبس هشام وحضر عمر وعياش وهاجرا،
وعندما وصلا إلى المدينة في قباء خرج أبو جهل وأخيه الحارث إلى عياش ابن عمهما وأخاها لأمهما وقالا:
إن أمك قد نذرت أن لا تمس رأسها حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.
فقال عمر لعياّش: إنه والله إن يريد القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم،
فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت،
ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال عياش: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
فقال عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما،
فأبى عياش إلا أن يخرج معهما، فقال عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول ( سهلة الانقياد)، فالزم ظهرها، فإن رابك ريب فانج عليها، فركبها عياش وخرج معهما، وفي الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ، وأناخ، فما لبث أن عدوا عليه، وأوثقاه، وأدخلاه مكة، وفتناه فافتتن.
وظن المسلمون أنه لم تقبل منه توبة لأنه عرف الله ثم رجع للكفر بسبب البلاء فأنزل الله قوله: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ` وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ ` وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) الزمر: 53-55.
فكتب عمر هذه الآية وأرسلها إلى عياش، فوصلت له الرسالة، وهرب من محبسه وركب بعيره وانطلق إلى المدينة.
فوائد:
- الحادثة تبين دقة إعداد عمر لخطة الارتحال، فالثلاثة من قبائل مختلفة، ومكان اللقاء بعيداً عن مكة، وتم تحدد موعد محدد ومن يتخلف لا ينتظره الباقون.
- كشفت الحادثة عن أن قريش تخطط على إعادة المهاجرين كما كشفت الحس الأمني العالي لعمر بن الخطاب وفراسته.
- كشفت الحادثة على المستوى العظيم، وحرص عمر على أخيه، ينصحه ويحذره ويضحي بنصف ماله ويعطيه ناقته ويرسل له رسالة التوبة وعدم القنوط، ولم يتشمت عمر أو يتشفى في أخيه لأنه خالفه ورفض نصيحته.
3-أسلوب الحبس:
كانت قريش تقوم بالحبس داخل البيوت ، مع وضع اليدين والقدمين في القيد، وتفرض رقابة وحراسة مشددة حتى لا يهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعلوا مع عياش وهشام، زيادة في التعذيب حيث حرارة الشمس شديدة في البيئة الجبلية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت ويدعو للمستضعفين والمحبوسين في مكة، ويخص بعضهم بالاسم اللهم أنج فلان اللهم أنج فلان.
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش وهشام، فخططوا ووصلوا للبيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة .
4-أسلوب التجريد من المال:
حينما أراد صهيب بن سنان الهجرة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا (حقيراً)، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك،
فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟
قالوا: نعم،
فجعل لهم ماله أجمع،
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ربح صهيب، ربح صهيب”
ونزل فيه قول الله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) البقرة: 207.
ضرب صهيب مثلاً رائعاً لشباب الإسلام في التضحية واسترخاص المال في سبيل الله.
البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
كان التكافل بين الأنصار والمهاجرين ظاهرة عظيمة، فقد فتح الأنصار بيوتهم وقلوبهم للمهاجرين، وأصبح المسكن الواحد يضم أنصاري ومهاجر، يتقاسمون المال والمكان والمسئولية الإسلامية، وكانت البيوت تنبض بالأخوة والإيثار، فمن البيوت من استقبل مجموعة من المهاجرين، ومن البيوت من تخصص لاستقبل العزاب ومن البيوت من تخصص لاستقبال النساء.
كان تنظيم وصول المهاجرين واستقبالهم وتسكينهم يتم تحت إشراف الاثني عشر نقيباً وتحت إشراف قيادات الهاجرين الكبرى.
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية فكان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا، فكان هو حامل لواء القرآن وحامل لواء الحرب أيضاً.
ومن معالم المجتمع الجديد حرية الدعوة علانية ونشط التبشير بقدوم النني صلى الله وسلم.
الفرق بين الحبشة والمدينة:
كانت الحبشة ذات طابع اللجوء السياسي والجالية الأجنبية، فالمسلمون امتلكوا حرية العبادة لكن لم يستطيعوا تحقيق التأثير المنشود في المجتمع النصراني.
أما المدينة فقد أصبح المجتمع مسلماً حمل المسؤولية الدعوية فقط قبل بيعة العقبة الثانية،
أما بعدها فأصبح الوجود سياسي بعد تكوين البناء وتعين 12 نقيب ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى وعلى استعداد لمواجهة كل عدو خارجي وذلك قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع الأنصار، وشكلت المجتمع الذي ينتظر قائده الأعلى ليعلن ولادة الدولة التي صنعت حضارة لم يعرف التاريخ مثلها .
أهمية المدينة ومزاياها:
تميزت جغرافيا المدينة بالحصانة من أي هجوم عليها، فهي محاطة بجبلين من جهتين، وبالنخيل الكثيف من جهة ثالثة، وقد استغلال نبي صلى الله عليه وسلم ذلك في غزوة الأحزاب حيث حفر خندقاً في الجهة الرابعة، وتميز أهل المدينة أنهم أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا لقبيلة إتاوة أو جباية.
وكان أخوال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والأرحام لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية.
تميزت بأنها كانت المكان الذي جمع الفرقاء في الجاهلية وأصبحوا تحت لواء الإسلام.
وقد وردت فضائل عن المدينة من ذلك:
قال النبي صلى الله عليه وسلم ربه: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد”.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:” اللهم بارك لنا في مدينتنا”. رواه مسلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة”. رواه مسلم
كان عمر بن الخطاب يدعو “اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم”.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها”. رواه البخاري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة”.
وقال صلى الله عليه وسلم: “المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ”. رواه مسلم، المدينة حرم بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها.
قد تهمك هذه الموضوعات: