تناول في هذه المادة الوثيقة أو الصحيفة التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من كتاب السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور على محمد الصلابي باختصار وتصرف.
قد يهمك:
- بناء المسجد الأعظم بالمدينة
- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
- سنة التدافع وحركة السريا
- استمرارية البناء التربوي والعلمي
الوثيقة أو الصحيفة
نظم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً وضح فيه التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت بعض الأبحاث الحديثة لفظ “دستور”.
دروس وفوائد من الوثيقة أو الصحيفة:
1- تحديد مفهوم الأمة:
تضمنت الوثيقة أو الصحيفة مبادئ عامة درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيه، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة.
فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعاً مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس.
وبذلك نقل النبي صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية إلى شعار الأمة “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ “. الأنبياء 92.
وهى أمة وسطية إيجابية لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعوا إلى الفضائل، وتحذر من الرذائل.
انصهر الأوس مع الخزرج، والمهاجرون مع الأنصار، وأصبحوا أمة واحدة.
واعتبرت اليهود جزءاً من مواطني الدولة الإسلامية: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم”.
“وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين”.
اختلاف الدين ليس مسبباً للحرمان من مبدأ “المواطنة”.
دروس وفوائد من الوثيقة أو الصحيفة:
2- المرجعية العليا لله ورسوله:
“وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم “.
أى أن الفصل في الخلافات شرع الله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم (ريئس الدولة).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم صاحب السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية واعترف اليهود بسلطة النبي صلى الله عليه وسلم.
واليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي إلا في حال وجود خلافات بينهم وبين المسلمين.
أما في قضاياهم الخاصة يحتكمون فيها إلى التوراة وإلى أحبارهم، وإذا أرادوا احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حدث ذلك بالفعل، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام امتنعت بنو قريظة عن الضعف، وطالبت بالمساواة.
وتولى النبي صلى الله عليه وسلم حكم المدينة، وقرر في الوثيقة عدم السماح بمحالفة قريش و وغيرها من القبائل المعادية إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
3- إقليم الدولة:
“وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة”.
وتحددت معالم الدولة:
أمة واحدة – إقليم هو المدينة – سلطة حاكمة.
والمدينة كانت بداية الإقليم ونقطة الانطلاق، ومركز الدائرة ثم اتسع باتساع الفتح.
وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم أعلاماً على حدود حرم المدينة.
دروس وفوائد من الوثيقة أو الصحيفة:
4- الحريات وحقوق الإنسان:
تضمنت الصحيفة قواعد ومبادئ تحقق العدالة المطلقة والمساوة التامة بين البشر وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها.
يقول الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا: “ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور – في جملتها – معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم، وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم”.
موقف اليهود في المدينة:
ولما قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة لليهود على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عناداً وعداوة واستكباراً وحقداً وحسداً على الرسول ومن آمنوا معه.
فقد قال حُيَي بن أخطب بعدما تيقن من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: “عداوته والله ما حييت” أي أنه سيعاديه حتى موته.
وشن اليهود حمالات إعلاميه لتشويه الرسول صلى الله عليه وسلم وتنفير الناس منه، ونزع ثقتهم فيه، وبذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة.
موقف اليهود في المدينة:
1- محاولة اليهود لتصديع الجبهة الداخلية:
مر شأس بن قيس وكان شيخا كبيراً كبر سنه شديد الضِّغْن على المسلمين، شديد الحسد عليهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم.
فأمر فتى شاباً من يهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بُعاث الذي اقتتلت فيه الأوس والخزرج.
فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا وتواثب رجلان، فتقاولا وغضب الفريقان، وتواعدا على اللقاء بالسلاح.
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم فقال:”يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم؟”.
فأدرك القوم أنها نزغةٌ شيطانة، فبكوا وتعانقوا ونزل فيهم: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ` وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ` يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ` وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ` وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ` وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [آل عمران: 100- 105
تابع موقف اليهود في المدينة:
2- التهجم على الذات الإلهية:
– قالوا” إن الله فقير ونحن أغنياء”.
– قالوا” يد الله مغلولة”.
3- سوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسل والقرآن:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام(أى الموت ) عليك يا أبا القاسم.
فقلتُ: السام عليكم، وفعل الله بكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش».
فقلت: يا رسول الله، ما ترى ما يقولون؟
فقال: “ألست تريني أرد عليهم ما يقولون؟ وأقول: وعليكم.”
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود وسألوه عمن يؤمن به من الرسل فأخبرهم.
فقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به.
تابع موقف اليهود في المدينة:
4- دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم:
أنزل الله في المنافقين: ” وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ “[البقرة: 14].
و شَيَاطِينِهِمْ هم اليهود، فهم شياطين المنافقين يخططون لهم ويوجهونهم ويدرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء.
5- الطعن في من يؤمن من الأحبار :
عندما بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي.
قال: ما أول أشراط الساعة؟
وما أول طعام يأكل أهل الجنة؟
ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟
ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خبرني بهن آنفا جبريل”.
فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب،
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد الحوت،
وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقه ماؤها كان الشبه لها”
قال: أشهد أنك رسول الله.
ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك.
فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟”
فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟”
قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. رواه البخاري
تابع موقف اليهود في المدينة:
6- بث الإشاعات والشماتة:
في الأشهر الأولى من الهجرة أصيب أحد النقباء أبو أمامة أسعد بن زرارة بالحمى، فزاره النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وحاول أن يجد له حيلة للشفاء فأمر به فكوي بخطين فوق رأسه فمات.
فشنعت اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد داواه صاحبة أفلا نفعه.
. وأشاعت اليهود أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، وذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، فلما ولدت أسماء بنت أبي بكر أول مولود في الإسلام بعد الهجرة ( عبد الله بن الزبير بن العوام) كبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
7- موقفهم من تحويل القبلة:
تكاد تكون حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة هي الفاصل بين الحرب الكلامية والمناوشات، وبين التدخل الفعلي من جانب اليهود لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة.
وقد أخبر الله بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة قبل وقوع ذلك، فدل ذلك على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الوحي يأتيه ويعلمه الغيب.
إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي:
ومنها العسكري، ومنها الديني، ومنها التاريخي.
فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث.
وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء وضعها الشاذ المحاط بالأصنام.
وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية بقية الأديان.
8- من صفات اليهود في القرآن:
– الإشراك في العبادة: عزير بن الله.
– اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
– محاربة الأنبياء والصالحين: “ويقتلون النبين بغير حق”.
ـ- كتمانهم العلم وتحريفهم للحقائق.
– التفرق: “تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى”.
– الرشوة: “أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ”.
– النفاق: أظهر بعض زعمائهم الإسلام وأبطنوا النفاق.
– المداهنة: “لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَر فعلوه”.
– عدم الانتفاع بالعلم: ” كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا”.
– الحقد والكراهية:
– الحسد: “حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم”.
– الغرور والتكبر:
يزعمون أنهم شعب الله المختار – “وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى” – “وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ”.
– البخل: ” الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ”.
– العناد: ” وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ “البقرة: 145
إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
رغم أن الوثيقة أعطت اليهود الحرية الدينية ومنعت مصادرة المعتقدات والأفكار وأمنت لهم حياة كريمة لكن طبيعة اليهود الغدر والخيانة وعدم الوفاء، وقد فضحهم القرآن في مواضع عديدة:
” الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ) [الأنفال: 56].
ولقد سلك اليهود وسائل عدة للكيد بالرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ومكيادتهم وكان مكر اليهود في غاية الدهاء، وقد وصفهم الله بالفعل المضارع المستمر.
ولقد فشلت كل مكائدهم بفضل التربية النبوية الرشيدة التي غرست معاني الإيمان العبودية لله، وإدراك أساليب التمكين واستيعاب مكر العدو.
إن المسلمين اليوم يتساقطون أمام دهاء اليهود لبعدهم عن المنهج النبوي.
ولقد تغلغت الأصابع اليهودية في عصرنا بدهاء وعبقرية في الهدم والتخريب.
فهي تستغل الأحداث وتستثمرها لمصلحتها، إن لليهود وجوداً مؤثراً في الدول الكبرى، اقتصادياً، وسياسياً، وإعلامياً.
ولم يغيبوا عن النظامين العالميين، الرأسمالية والشيوعية، ولا عن الثورات الكبرى.
وهناك عدد من المنظمات العالمية تبذل جهوداً ضخمة في تحقيق أهداف اليهود، وأبرزها الماسونية، الليونز، والروتاري، وشهود يهوه … إلخ.
إن قوة اليهود بسبب ضعف إيمان المسلمين، فكيد اليهود ضعيف.
إ”ِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ” [النساء: 76] .